أظن أن من أكثر السرديات تداولا هي سردية "حقوق الإنسان"، وأظن كذلك أن من أكثر السرديات ظلما هي "سردية حقوق الإنسان". والسردية، كما عرفناها بشكل مبسط في هذا العمود، تعني التكرار والتتابع في الخطاب، مكتوبا كان أو شفهيا، وعبارة "حقوق الإنسان" فيها من التتابع والتكرار ما يصل إلى حد الملل والقرف أحيانا.

أقول "القرف" لأننا سئمنا القول إننا كبشر لنا حقوق متساوية، بمعنى أن القوي فينا والضعيف، وأبيض البشرة وداكنها، والساكن في العالم الأول والعالم الثالث لهم حقوق متساوية، أو بالأحرى أن الألماني أو الأمريكي أو الإنجليزي أو الإسرائيلي متساوون من حيث الحقوق الإنسانية مع أي مواطن من العالم الثالث.

قبل أن أدخل في خضم الموضوع، أقول إن سردية أننا متساوون من حيث حقوقنا الإنسانية سردية فيها الكثير من الغش والخداع، لأننا ببساطة لسنا متساوين لا في الحقوق ولا في الواجبات.

وكذلك لسنا متساوين في القيمة الإنسانية. هناك قيمة إنسانية كبيرة لشريحة معينة من البشر على حساب شريحة أخرى. ولنحلل بعض الأطر الخطابية التي ترد في الإعلام، وعلى الخصوص الغربي منه، لنرى إن كان في الإمكان التثبت من فرضية حقوق الإنسان، كما ترد في اللوائح الدولية والتي تؤكد أننا متساوون كبشر وأن قيمتنا الإنسانية واحدة بغض الطرف عن الثقافة واللون والميل والعرق أو الجغرافيا التي نقطنها.

كل تحليل سليم للخطاب يجب أن يأخذ الجانب النقدي منه في عين الاعتبار. والاعتبار النقدي من الأهمية بمكان، لأنه يربط فهم أي حدث وأهميته أم خطورته بمجمل السياق الذي ورد فيه، والمساواة لا ولن تتحقق دون وضع السياق في الحسبان. وما السياق يا ترى؟ السياق هو الإطار والبيئة والخلفية وراء الحدث أو الفكرة مع اللغة التي نستخدمها للتعبيرعنها كي يفقه الناس ما الخطب أو الأمر. كل حدث أو فكرة أو تعبير خارج سياقه يفتقر إلى المساواة، ويخفق في منح الأحداث والأشخاص حقوقا متساوية.

من هنا الخشية من السياق، ومن هنا رفض وضع الحدث والأشخاص والتعابير اللغوية التي يمكننا الحديث أو الكتابة عنها ضمن السياق الذي ترد فيه.

من هنا أيضا الخشية من نطق أو كتابة مفردات أو تعابير محددة، انظر إلى ساحة الإعلام الغربي بصورة خاصة، ترى عجب العجاب، وعلى المستوى الشخصي أضرب أحيانا عشري على رأسي لما أراه من ازدواجة مفرطة لحقوق الإنسان والنفاق في انتقاء كلام يصح هنا ولا يصح هنا رغم أنه يصح هنا وهناك.

لنأخذ الحرب على غزة مثالا، حيث هناك غياب صارخ للسياق في تغطيتها الإعلامية. غياب السياق حول الحرب إلى ساحة صراع حول أي مفردة يجب استخدامها، وأي مصطلح يتفق مع هذا ولا يتفق مع ذاك. في بعض الدول الغربية ترديد مفردة محددة قد تؤدي بصاحبها إلى طرده من عمله أو ربما إيداعه السجن.

هكذا، تلصق تهمة "خطف" الأطفال بطرف محدد وحسب، ولا تستخدم البتة في اتهام الطرف الآخر حتى وإن كانت الأدلة على خطفه للأطفال تطفو على السطح.

عندما يطلق سراح أطفال إسرائليين يطلق عليهم الإعلام مصطلح "المخطوفين"، ولكن عندما يطلق سراح أطفال فلسطينيين لدى إسرائيل يطلق عليهم مصطلح "سجناء".

غياب السياق جعل العالم كله تقريبا يركز على "خطف" أطفال ومدنيين إسرائيليين في حادثة واحدة ربما لم يبق إنسان في الدنيا لم يدينها، ولكن مضى على إسرائيل نحو سبعة عقود، وهي تخطف الأطفال الفلسطينيين وتودعهم السجن وتسومهم أقسى أنواع العذاب وأعدادهم بالمئات ومنهم من أمضى سنين طويلة لدى خاطفيه من الإسرائيليين.

الأطفال الإسرائيليون الذين جرى خطفهم يطلق سراحهم في اتفاق تبادل للأسرى، نقرأ أن إسرائيل تستمر في خطف الأطفال الفلسطينيين ووصل عدد الذين قبضت عليهم فقط في الـ50 يوما الماضية أكثر من ثلاثة آلاف مدني فلسطيني بينهم نساء وأطفال.

أول خطأ، لا، بل أول خطيئة نقع فيها هي عندما نتصور أن الأطفال ـوهم أبرياء دون تميزـ متساوون في القيمة الإنسانية. هم كذلك أمام الله والسماء، ولكن ليسوا كذلك عند البشر.

يتباكى الإعلام على عدد قد لا يتجاوز أصابع اليدين من الأطفال المخطوفين من الإسرائيليين ـوهم يستحقون البكاء لأنهم أطفال أبرياءـ ولكنه يتغاضى، لا، بل يخشى حتى أن يذكر السياق، أي أن ينبه العالم أن إسرائيل أصبح لها 70 عاما وهي تخطف الأطفال الفلسطينيين دون مساءلة.

يمضي الإعلام في غيه الخطابي المزدوج مصرا على أن الأطفال الذين تخفطهم إسرائيل ليسوا إلا سجناء أمن security prisoners، أي يشكلون خطرا على أمن دولة إسرائيل، وهم يلقون حجرا على مجنزرة إسرائيلية تقتحم أرضا فلسطينية محتلة خارج حدود دولة إسرائيل، بينما أطفال إسرائيل إن جرى القبض عليهم من قبل الفسلطينيين هم "مخطفون".

هل هناك مساواة في حقوق الإنسان بين الطفل الفلسطيني والطفل الإسرائيلي؟ انظروا ماذا يفعل غياب السياق؟ وقس على ذلك قتل نحو 15 ألف فلسطيني أغلبهم نساء وأطفال وغيره كثير، ما يجعل من "حقوق الإنسان" قولا أجوف باطلا.