خلال حضوري للورش التي صاحبت المؤتمر العام لليونسكو الشهر الفائت لاحظت أن هناك اهتماماً واسعاً ومتزايداً بـ"ستيم" STEM، وهو مختصر "العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات"، حتى أن منظمة اليونسكو سمت العقد القادم بـ"عقد ستيم" إيماناً منها بأن التنمية القادمة لا يمكن أن تتحقق دون التركيز على بناء جيل يؤمن بالعلوم وما يدور حولها. لقد ذكر لي مدير قطاع العلوم في اليونسكو أن المنظمة عازمة على تطوير معايير لتعليم "ستيم" يمكن اتباعها من قبل الدول حسب أنظمتها الداخلية، فكما هو معروف أن اليونسكو لا تلزم الدول بمعاييرها لكنها تعمل مع الدول على تطوير أنظمتها الداخلية. بالتأكيد أن هذا الاهتمام المتزايد بالعلوم يلقى ترحيباً في كثير من الأنظمة التعليمية حول العالم، لكن لا أعلم حقيقية هل بدأت فلسفة ومناهج التعليم لدينا في المملكة في التكيف مع هذا التوجه العالمي نحو خلق فضاء تعليمي يركز على المبادئ التي ينادي بها "ستيم"؟

السؤال هو: ما الذي تطرحه فلسفة التعليم المرتبطة بـ"ستيم" حتى تكون هي المركبة التي يمكن أن تساهم بشكل آمن في تحقيق التنمية المستقبلية؟ لعل أهم ما في هذه الفلسفة هو "العلم التجريبي"، وعلى الطالب أن يوازي بين العلم النظري والتجريب العملي، وهذا يقودنا إلى مبدأ "التعليم عن طريق حل المشكلات" وليس الأسلوب التقليدي الذي لا يزال مهيمناً على فلسفة التعليم لدينا وهو "التلقين" Spoon-feeding.
وبالتأكيد فإن تعليم العلوم الذي يعتمد بشكل أساسي على التجربة يتطلب بنية تحتية وفوقية تسمح بالتجريب، وبوجود عقليات تعليمية ترى أن التجريب هو الأسلوب الأمثل للإبداع والابتكار وقادرة في الوقت نفسه على صناعة البيئة التجريبية. هذه هي المسألة الأخرى التي يركز عليها "ستيم"، فالأساس هو صناعة عقول مدربة على الابتكار وليس ترديد ما تحفظه من الكتب. هذا يعني تحول التعليم من اجترار المعرفة إلى خلق وابتكار المعرفة، وهذه، دون شك، نقلة كبيرة، لا أعلم إن كان تعليمنا مستعداً لها الآن أو حتى في المستقبل القريب.

يفترض أن يكون التدريب على التجريب والابتكار والفكر النقدي وصناعة المعرفة منذ الصغر، أي في مراحل التعليم العام، لذلك نجد أن جل تركيز قطاع العلوم في اليونسكو منصب على هذه المرحلة العمرية التكوينية التي تشكل العقل وشخصية التفكير وتبني لدى الطالب "الفضول العلمي"، لذلك يصعب أن نتصور أن يكون التجريب في المرحلة الجامعية فقط. هذا لا يعني أن مراحل التعليم العالي لا تعتمد على فلسفة "ستيم" التعليمية، بل إنني لاحظت أن أغلب البرامج الجامعية في الولايات المتحدة حتى برامج الماجستير والدكتوراة يتم الإشارة إلى أنها "ترتكز على ستيم". على الأقل لاحظت ذلك في برامج التعليم المعماري، علماً بأن العمارة تتوسط بين العلوم والفنون. هذا يعني أنه أصبح من الصعوبة بمكان بناء برامج تعليمية ترتكز على الابتكار دون الجمع بين العلم والفن وربما هذا يفسر تطور مصطلح "ستيم" STEAM الذي يضيف الفن للعلوم أو التوجه الذي تبناه مركز "علمي" الذي أطلق مؤخراً في الرياض ويضيف القراءة كذلك للعلوم والفن STREAM.

أعتقد أننا لا نزال بعيدين عن هذا التحول التعليمي الذي يهتم بخلق المعرفة ويتمحور حول الابتكار، ولا يوجد بوادر للتحول للتعليم التجريبي، وأذكر قبل عقدين تقريباً أنه تم الإعلان عن مبادرة بعض رجال الأعمال بمشاركة وزارة التعليم لتبني تجربة التعليم التجريبي في مرحلة الثانوية العامة، ونشرت بعض الصحف الخبر آنذاك ومرت السنوات ولم ترى التجربة النور. في اعتقادي أن ما يمنع هذا التحول هو الركون إلى الحلول السهلة المجربة من قبل. هذا يعني العزوف عن تشخيص المشكلة وعن محاولة البحث عن حلول عملية لها. أما على مستوى التعليم الجامعي، صرنا نركن إلى "التصنيفات" العالمية للجامعات ولم نعد نقيّم مستوى التعليم وتأثيره من خلال تقييم المخرجات، وصارت مهمة عضو هيئة التدريس تعبئة النماذج ومتابعة الأوراق أكثر من التعليم نفسه، فضلاً عن أن يهتم بخلق بيئة تجريبية ابتكارية.

العالم يتغير بسرعة ونحن نتغير معه، والتنافس سيكون على ابتكار المعرفة وما يتبعها من صناعة وخدمات وبرامج وتقنيات وكل هذا يرتبط بما تريد أن تحققه المملكة لنفسها من خلال رؤيتها للمستقبل، وهي رؤية متجددة ومستمرة ولن تتوقف عند حد. هذا يتطلب فلسفة تعليمية جديدة، لبناء عقول تتعامل مع المستقبل وتنافس العالم وليس عقولاً تعيد خلق العجلة كل مرة.