كل الحروب تبدأ بمانشيتات رئيسية في الصحف وعناوين بارزة في نشرات الأخبار، ثم تبدأ بالنزول إلى ذيل الصحيفة، وتظهر كمادة ثانية أو ثالثة في الأخبار، بحيث تصبح الحرب، أي حرب، بعد فترة مسألة اعتيادية، وبغض النظر عن تطوراتها وآلام الخاضعين لجنونها وقصفها ونيرانها.

يتحدث محمد حسنين هيكل عن تجاربه كصحافي مع الحروب، فيقول: تأثرت كثيراً بتجربة الصحافي سكوت واطسون، الذي كان إلى جانب كفاءته المهنية، مثقفاً يسارياً صاغته تجربة الحرب الأهلية في أسبانيا بكل عناصرها الفكرية والانسانية العظيمة، ثم يضيف هيكل شارحاً تأثير واطسون على تجربته الشخصية في ملاحقة أخبار الحروب، فيقول: «أثناء الحرب العالمية الثانية وجدتني في العلمين شاهداً مصرياً على هذه الحرب، وأعترف أن تجربة العمل كمراسل حربي قد استهوتني»، ثم يصف تقييمه لهذه التجربة قائلاً: «أثناء عملي في قسم الحوادث بدت لي الجريمة وكأنها دورة المأساة الإنسانية على مستوى الفرد، فعندما يعجز شخص عن حل تناقضاته مع الآخرين بالعقل، فإنه يلجأ إلى العنف، وفي تجربتي الجديدة بدت لي الحرب وكأنها ذروة المأساة الإنسانية على مستوى الشعوب والأمم، وعندما يعجز مجتمع عن إدارة صراعاته بالعقل مع مجتمعات أخرى غيره يكون اتجاهه إلى القوة». (انتهى)

ينقل الإعلام إذاً الحرب بشكل نظري، وتكون معاناة العاملين تحت سقفها بلا دماء ولا أشلاء، لكن لأولئك الذين هم تحت نيران الحرب رؤية أخرى وآلاماً مختلفة، فلا يمكن أن تتحول الحرب إلى أمر اعتيادي إلا في نظر من يراقبها عن بُعد أو من الأعلى.

أقبح ما في الحروب هو أن تتحول إلى عادة، أو أن تصبح أمراً مألوفاً، أو أن يقتنع الناس بمبرراتها وكما حدث في «الحرب على الإرهاب» في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حين أصبحت أفغانستان في نظر العالم شراً مطلقاً تقتضي مواجهته، ثم سرى الأمر نفسه على العراق، وتسلل إلى سوريا واليمن وليبيا والسودان والصومال، واليوم يجري استخدام منطق «الحرب على الإرهاب» في غزة، بحيث يتم تصنيف من يدافع عن أرضه وعرضه وماله بالإرهابي، بينما من يقتل المدنيين الأبرياء والأطفال هو صاحب حق، وحربه عادلة، ومتفوّق أخلاقياً.

الجرائم الأخلاقية في الحروب لا تقل عن الجرائم العينية فيها من قصف ومدافع وقتل وتدمير ودموية، والادعاء «بالتفوق الأخلاقي» الذي يُمارسه الكيان الصهيوني، وتدعمه في ذلك كل شعوب الغرب، هو ادعاء باطل يفتقد أدنى مقومات الحس الإنساني السليم والعادل، والمشكلة هنا، والتي أدركها العالم في حرب غزة الأخيرة، أن منطق «محاربة الإرهاب» قد تحوّل إلى أجندة وبرنامج عمل تبنّته الدول كافة، بمن فيها العربية، وبشكل ساذج أحياناً، ومتعمّد في أحيان كثيرة، وأصبحت معها بعض الحروب ضرورات تبيحها استراتيجيات «السلم» العالمي، وهو المنطق الذي برّرت به مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، مقتل 500 ألف طفل عراقي بعد حرب الخليج، حين قالت: «اعتقد أن ذلك كان خياراً بالغ الصواب، لكن الثمن مناسب باعتقادي»! وعلى وتيرة مثل هذا المنطق نفسها حصل ما حصل في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن والسودان والصومال وليبيا وغيرها، بحجة «الحرب على الإرهاب»، والتي لا تختلف إطلاقاً عن الإرهاب بحد ذاته.

قد لا تملك الشعوب قراراً في مثل هذه الحروب البشعة، لكن بإمكانها أن تكون أدوات فاعلة لكشف الظلم وإشاعة الحقائق التي لا تكشفها وسائل الإعلام التقليدية، والتي يملكها أباطرة الحروب أنفسهم، وهو بالتحديد ما شكّل عامل قوة ودعم في الحرب على غزة، حين تفوّقت وسائل التواصل الاجتماعي على تلك الامبراطوريات الإعلامية، فكشفت للعالم حقائق غيّرت كثيراً في معادلة التضامن والدعم للقضية الفلسطينية بشكل عام، وكشفت للعالم أكذوبة «الحرب على الإرهاب».

لا يجوز للحرب أن تصبح عادة أو أمراً مألوفاً، ولا أن تكون «الحرب على الإرهاب» مسألة مُستَحَقة، وكما أرادها أصحابها، فالحرب، ومهما بلغت درجة الاحتياط، مُعدية جداً، ونيرانها لا تعترف بحدود ولا بأسوار شائكة. ومن يأمن اشتعال حرب في زاوية من العالم فعليه أن يحتاط من ان تُدرك نيرانها حدود أمنه يوماً ما.