شيء ما تبدّل في حسابات أطراف النزاع في السودان وأدّى إلى إعادة تعويم مسار تسوية سياسية يُفترص أن تنهي الحرب المندلعة منذ نيسان (أبريل) الماضي. والظاهر أن التبدّل طال دولاً معنيّة بالشأن السوداني، باتت أكثر حماسة (أو اضطراراً) لدفع المتقاتلين إلى إيقاف الصراع عسكرياً والاعتراف بأنّه -كأي صراع عرفه السودان منذ استقلاله- لا يمكن الخروج منه إلاّ بالمفاوضات والاتفاق السياسي.

وإذا ما صحّ أنّ التسوية تقوم على أساس لقاء مباشر يجمع رئيس مجلس السيادة السوداني قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو، فإنّ الأمر يعني أنّ الجنرالين باتا أكثر اقتناعاً باستحالة تحقيق "نصر" يُنهي الصراع بالأدوات العسكرية، وأنّ الرجلين استنتجا بعناية تعقّد الوضع الميداني الداخلي وعدم الركون إلى ما يُنجز في كرّ هذا وفرّ ذاك.

والواضح أنّ البرهان أجرى مراجعة لمواقفه على نحو انقلابي، قاده في 9 كانون الأول (ديسمبر) الجاري إلى حضور قمّة استثنائية لقادة دول الهيئة الحكومية للتنمية "إيغاد" في جيبوتي. كان الرجل قد رفض سابقاً الانخراط في جهود لجنة "إيغاد" الرباعية الخاصة بالملف السوداني، اعتراضاً على رئاسة كينيا لها (أنهت القمّة الأخيرة عمل اللجنة). وبدا أنّ تحوّلات البرهان جاءت إثر حراك دبلوماسي قاده قبل ذلك إلى لقاء الرئيس الكيني وليام روتو في نيروبي، ورئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد في أديس ابابا. والأرجح أنّ لقاءه رئيس جيبوتي إسماعيل غيله أدّى إلى ولادة قمّة "إيغاد" الطارئة.

ومن المهمّ ملاحظة الحضور الإقليمي الدولي للقمّة، على مستوى الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة ودول جوار السودان، لكن أيضاً المشاركة اللافتة للولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية وقطر والإمارات. الأمر يعني أنّ مزاجاً خارجياً بدا أكثر انسجاماً للإدلاء بدلو واحد يُقنع المتقاتلين بإنهاء حقبة الحرب والعنف والدمار. وكان واضحاً أنّ قيام "إيغاد"، من خلال البيان الختامي، بشكر الإمارات على مشاركتها، وعلى دورها البارز في إيجاد حل للأزمة السودانية، يبعث برسالة إلى الداخل السوداني وإلى الخرطوم خصوصاً (بعد ما أثارته من مواقف أخيراً) بالواقع الحالي للإرادة الدولية في شأن السودان.

وقد يكون من المبكّر كشف الظروف التي دفعت البرهان وفريقه الى التراجع عن الموقف السلبي من الدور الكيني. للتذكير فإنّ وزارة الخارجية السودانية كانت قد أصدرت بياناً في حزيران (يونيو) الماضي، يتهم كينيا بالانحياز الى قوات الدعم السريع، بما يفقدها صفة الحياد المفترض أن تتحلّى به الدولة الوسيطة. وذهب الجيش السوداني، وفق تصريحات لنائب قائد الجيش السوداني الفريق ياسر العطا في تموز (يوليو) الماضي، إلى التهديد بـ "غزو كينيا" بسبب اقتراح إرسال قوات إفريقية إلى السودان.

يأتي ما أُحرز من تقدّم في جيبوتي بعد أيام على قرار أميركي- سعودي بتعليق المفاوضات التي كانت جارية بين طرفي الصراع في جدة. والأرجح أنّ هذا القرار من دولتين أساسيتين راعيتين للتسوية في السودان، قد ساهم في تعظيم الضغوط من أجل الخروج بخلاصات أخرى.

وعلى الرغم من الدفع الإيجابي الذي أوحت به القمّة بحضور البرهان، غير أنّ ما صدر عن وزارة الخارجية السودانية لاحقاً من تحفّظات وملاحظات، طرح أسئلة من خصوم البرهان بشأن صراع أجنحة داخل صفوف النظام في الخرطوم. طالب بيان الوزارة بحذف الإشارة الى عقد رؤساء الـ "إيغاد" مشاورات مع الدعم السريع "لأنّ البرهان لم يشارك فيها". وطالب بـ "تصحيح موافقة البرهان على لقاء قائد الدعم السريع، لأنّه اشترط وقفاً دائماً لإطلاق النار وخروج القوات من العاصمة". وطالب البيان أيضاً بـ "تعديل الفقرة التي تدين التدخّلات الخارجية، بحيث لا تتضمن المساواة بين الجيش والدعم السريع".

وعلى الرغم من تحفّظات الفريقين وملاحظاتهما على نصّ البيان الختامي للقمّة، ومحاولتهما تعديل مواقعهما على طاولة اللقاء بين البرهان وحميدتي، فإنّ الأمر قد لا يحول دون إجراء هذا الاجتماع. وقد أوحت أجواء "إيغاد" أنّه مطلوب حدوث الأمر في غضون اسبوعين، مع احتمال أن تبقى أديس ابابا (كما كان اقترحت "إيغاد" اللقاء في حزيران (يونيو) الماضي) مكان الحدث. ومع ذلك فإنّ البرهان يشترط لإجراء اللقاء وقفاً دائماً لإطلاق النار وانسحاب "الدعم السريع" إلى خارج العاصمة.

وتأتي جهود "إيغاد" لتمثّل على ما يبدو استعاضة عن أدوار دبلوماسية فُقدت منذ بداية الصراع قبل 8 أشهر. فقد رفض مجلس السيادة بقيادة البرهان التعامل مع المبعوث الأممي فولكر بيرتس "بسبب انحيازه"، ما أدّى لاحقاً إلى إنهاء عمل بعثة الأمم المتحدة "UNITAMS". وتمّ لاحقاً تعيين الدبلوماسي الجزائري رمضان العمامرة مبعوثاً شخصياً للأمين العام للأمم المتحدة إلى السودان.

وكانت واضحة حساسية البرهان من أداء المنظمة الأممية وأي منظمات أو قوى إقليمية لا تتفق مع سردية مجلس السيادة والجيش للصراع للأخير. ويعتبر المجلس أنّ قوات الدعم السريع هي ميليشيات متمرّدة ولا يجب اعتبارها ندّاً للجيش في السودان، وأنّ قائد هذه القوات -الذي أُقيل من منصبه كنائب لرئيس مجلس السيادة- بات مطارداً من القوات الشرعية. في المقابل فإنّ حميدتي يرفض التعامل مع البرهان بصفته قائد مجلس السيادة (أي قائد الدولة في الوضع الراهن) بل كقائد للجيش. وإذا ما صحّ عن نية الرجلين اللقاء، فإنّ الأمر يكشف مدى العقبات الشكلية الواجب تجاوزها.

صحيحٌ أنّ قوات الدعم السريع رحّبت بنتائج القمة، غير أنّ البيان الصادر عنها أوضح أنّها رفضت المشاركة في القمة، رغم وصول وفدها الى جيبوتي، احتجاجاً على مشاركة البرهان بصفته رئيساً لمجلس السيادة السوداني. وأكّد أنّ قائد الدعم السريع وافق على طلب المجتمعين عقد اجتماع رسمي بينه والبرهان، شرط أن يمثل البرهان خلال الاجتماع المقترح بصفته قائداً للجيش وليس رئيساً لمجلس السيادة.

الأرقام تتحدث عن مقتل 12 الف شخص منذ اندلاع القتال. تتحدث أيضاً عن نزوح أكثر من 6 ملايين شخص وتدمير كبير للبنية التحتية للبلاد. الحرب أباحت ارتكاب مجازر وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان ترقى إلى مستوى جريمة حرب، على الأقل وفق الاتهامات الأخيرة لوزارة الخارجية الأميركية.

على خلفية ذلك قد يكون مبكراً "الإيمان" بتحوّل انقلابي للحدث في جيبوتي. رحّبت الولايات المتحدة بما تحقّق، وهي التي اتهمت طرفي الصراع قبل أيام بارتكاب جرائم حرب في السودان، ما صبّ غشاوة على موقف واشنطن واتجاهاته، وهي التي ما زالت متمسّكة بموقف محايد حتى في توزيع المسؤولية عن هذه الجرائم. يبقى أنّ التعويل يترّكز على إرادة إقليمية دولية بإنهاء صراع، هو أساساً جزء من اختلال النظام الدولي وارتباك قواعده.

لسان حال المتشائمين يقول، إنّ حرب غزة وأوكرانيا وانقسام العالم بين شرق وغرب، لا يوحيان بأنّ الظروف متوافّرة لمنح السودان بشكل استثنائي سلاماً، في مشهد ما زال يشي بحقبات لإدارة الصراع لا إغلاقه.