استطاع مؤتمر «كوب 28» أن يحوّل التغيّر المناخي من ملف علمي تهتمّ به الحكومات والمؤسسات المتخصصة إلى شأن بات كل مواطن في العالم يشعر بأنه معنيٌّ به، تحديداً بإيلائه عناية بجوانب لم تسلّط عليها الأضواء من قبل. ومنها، مثلاً، العلاقة بين مواجهة التحدّي المناخي وبين نجاح التنمية المستدامة، وتأثيرها في الأنظمة الغذائية والصحية، وكذلك دور القيادات الدينية في تعزيز الوعي بترشيد العلاقة مع الطبيعة. وهكذا تمكّن مؤتمر الأطراف الدولية المنعقد في دولة الإمارات من أن يجري نقلة نوعية في مقاربة التغيّر المناخي، من المستويات التقنية والعلمية، ومن استراتيجيات الطاقة وتعقيداتها الديبلوماسية والاقتصادية، إلى المستوى الإنساني، لأن ما يحصل من إضرار بالمناخ ومن احترار للأرض بات يهدد بإغراق جزر صغيرة ومناطق ساحلية واسعة.

حتى الآن كان يشار باستمرار إلى «اتفاق باريس» وحده (كوب 21، عام 2015) كمرجع معتمد لجدول الأعمال الدولي في مكافحة التغيّر المناخي وعدم ارتفاع حرارة الأرض فوق 1.5 درجة مئوية، مع كل العناوين والخطوات العملية التي حدّدها. والآن، بعد ثمانية أعوام، أصبح هناك «اتفاق الإمارات» الذي يمكن القول إنه أطلق مسار التعامل مع المناخ سواء بحلّ العقد التي استعصت سابقاً في شأن صندوق «تمويل المناخ» ومسألة «الخسائر والتعويضات» للبلدان الأكثر تضرراً، أو بالمساهمة في بلورة مفاهيم دولية جديدة لمزيد من الاهتمام بدول الجنوب، أو بنجاحه أخيراً في إيجاد توافق على أصعب الملفات وهو المتعلّق بالوقود الأحفوري (النفط والغاز والفحم)، إذ أن الإجماع على التخلّي التدريجي عن هذا الوقود بحلول عام 2050 شكّل النقطة البارزة في نتائج هذا المؤتمر. ومن الواضح أن الخيارات الأخرى، التي راوحت بين المطالبة بـ«التخلّي الفوري» أو تأجيل بتّ المسألة، لم تكن واقعية، فأحدها يجنح إلى تعطيل الاقتصاد العالمي، والآخر يعني إبقاء الأجندة الدولية عالقة، فيما سجّلت الحرارة أعلى ارتفاع لها هذه السنة، أي أن المناخ نفسه لا ينتظر ولا يسوّف.

وبفضل «اتفاق الإمارات» أصبحت خريطة الطريق المناخية أكثر وضوحاً، فعدا موعد الاستحقاق «التاريخي» لعام 2050 هناك استحقاق آخر يتعلّق بزيادة قدرة الطاقة المتجددة (أو النظيفة) إلى ثلاثة أضعاف بحلول عام 2030. وأشار أمين عام الأمم المتحدة إلى أنها «المرّة الأولى التي يُعترَف فيها بالحاجة إلى التحوّل بعيداً عن الوقود الأحفوري، بعد أعوام عديدة من عرقلة مناقشة هذه القضية». ولوحظ أيضاً أن الحضور الأميركي والصيني في «كوب 28» كان بالأحرى إيجابياً ومتعاوناً وبعيداً عن أجواء الخلاف والتنافس، وهو ما عزاه مراقبون إلى مناخ العمل الذي وفّرته الإمارات وعلاقاتها مع الدولتين الكبريين، مما ساهم في توافقهما على تحديث استراتيجياتهما المناخية طويلة المدى، بقدر ما أثّرت في اعتدال التكتّلات الدولية الأخرى.

هذه النقلة النوعية في «كوب 28» تميّزت تحديداً بتقليص الخلافات بين الدول، وباستجابة تلقائية لجماعات البيئة عبر إعلاء مبادئ الإنصاف والعدالة في مسائل الطاقة، وبالتالي صارت نقطة تحوّل يتوقّف تطبيقها وتطويرها لاحقاً على ممارسة الحكومات لمسؤولياتها في التوجّه نحو مرحلة «تصفير الانبعاثات» الكربونية والاستثمار في الطاقة الخضراء. ومع كل مؤتمر للأطراف تعطي الدولُ صاحبة أكبر انبعاثات مزيداً من الإشارات إلى أنها لم تعد تستطيع التهرّب من واجباتها، فالمسألة هنا ليست سياسية ولا تتعلق بموازين قوى عسكرية، بل بتغيّرات تنعكس آثارها على مواطنيها وعلى حياة البشر أينما كانوا. والأكيد أن انعقاد «كوب 28» في دولة الإمارات لفت إلى تجربتها التنموية المتقدمة خصوصاً في التعامل مع تحديات المناخ ودعم مصادر الطاقة النظيفة.