لبنان لم يعد إستثناء من القاعدة في بلدان العالم الثالث الذي صار اسمه «الجنوب العالمي»: من يحمي بلداً يحكمه. وهذا أحد العوامل التي دفعت الجيوش الى القيام بإنقلابات عسكرية سمتها ثورات وتولي مسؤولية الحكم، بصرف النظر عن ظروف النجاح والفشل في لعبة معقدة تدور في «عالم قاسٍ» وحلقة مفرغة من صراعات وإنقلابات لا تنتهي. و»حزب الله» الذي أعطاه الوصي السوري وإيران مهمة الإنفراد بمقاومة الإحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني حافظ على السلاح بعد تحرير الجنوب عام 2000 على أساس أن مزارع شبعا وتلال كفرشوبا لا تزال محتلة، ثم أعطى لنفسه مهمة حماية لبنان من أي إعتداء إسرائيلي كمقاومة إحتياطية، قبل ان يربط مهمة سلاحه بحل أزمة الشرق الأوسط ثم تحرير القدس وكل فلسطين.

فضلاً عن كون «المقاومة الإسلامية» جزءاً من المشروع الإقليمي الإيراني و»محور المقاومة». وفضلاً أيضاً عن ان قائد «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري الإيراني الجنرال إسماعيل قاآني أعلن مؤخراً بصراحة «أن محور المقاومة بقيادة إيران سيستمر بالعمل في لبنان وسوريا والعراق واليمن وفلسطين حتى ظهور الإمام الغائب وتشكيل حكومته».

لكن «حزب الله» يفضل في هذه المرحلة التحكم بلبنان على حكمه مباشرة ورسمياً. فالحكم مسؤولية صعبة في بلد من 18طائفة أغرقه حكامه في بحر من الأزمات المالية والإقتصادية والإجتماعية والسياسية. والتحكم يسمح له بإدارة الأمور من «المقعد الخلفي» مع تحميل المسؤولية للآخرين. والإنهيار الكامل للبلد يسحب من تحت المقاومة حتى الارض التي تقف عليها ويضر بالمشروع الإقليمي الكبير، لأن النظام البديل في لبنان آخر ليس جاهزاً ولا مأموناً.

ذلك ان قاعدة «سوء التفاهم المتفق عليه» التي تحدث عنها ميشال شيحا وسادت لبنان انتهت. كذلك انتهت المعادلة التي خلاصتها أن «التحالف اللبناني يقوم على إرادة العيش المشترك الذي له ركيزتان: الخوف السياسي المشترك والمنفعة الإقتصادية المشتركة». فالخوف لم يعد مشتركاً. والمنفعة التي لا تزال مشتركة محصورة بالمافيا السياسية والمالية والميليشوية المتسلطة، وسوء التفاهم واقعي.

خصوم «حزب الله» بدأوا يدركون أن مشكلة السلاح ليست مجرد كونه خارج الشرعية. والتصور أن لبنان ثابت والسلاح مؤقت ومتغير يصطدم بصورة الواقع التي توحي أن لبنان متغير والسلاح ثابت.

غير أن التغيير الراديكالي الذي يلغي جوهر لبنان ليس سهلاً ولا مضموناً. فالوطن الصغير ليس أرضاً بلا ناس وقوى وتوازنات وعلاقات عربية ودولية. ولا القبض عليه لمصلحة قوة داخلية وخارجية واحدة هو مسألة لا تصطدم بقوى داخلية وخارجية لها خيارات ورهانات معاكسة. ومن الوهم رسم السيناريوات والمشاريع على أساس أن اللعبة الجيوسياسية والإستراتيجية في لبنان والمنطقة متحركة في اتجاه واحد قائم على الايديولوجيا.

المؤرخ أندريه زورين وصف خطاب روسيا عن أوكرانيا بأنه «إستدعاء الماضي للحلول محل مستقبل خطير وغير مؤكد للإمبراطورية». وهذا ما يصح حتى على اللعب بماضي بلد صغير ومستقبله مثل لبنان.