الفقد الذي لا أحب، الصورة التي تعذبني في كل مرة آلاف المرات، الحالة التي تقتلعني من استقراري وتخنقني في دهاليز مظلمة، الرحيل الذي لا أحب، والصوت الذي يغيب فيغيب فيّ الفرح، الوداع الذي لا يستأذن، والصورة التي تحملني قسراً على أن أتحملها، سوداء لا تضاريس ولا حتى خطوط، تنتشي في اختفاء الملامح، وانتهاء كل الأحاديث، لتصدمني أمام الحقيقة التي تقف شامخة أمامي: أجلنا كثيراً جلسات الود، القهوة، اللقاءات التي ارتحلت عاماً بعد عام، الفصول التي لن تكتب وستبقى صفحات بيضاء مؤلمة قاتمة، تتجرعنا صفعات من اليقظة التي توردنا محال من الصمت والتجربة المرة التي لا نملك قرار فراقها، الفقد الذي يعتصر قلبي كلما رحل اسم، ملامح، قصة وفصل في حياتي كان في زاوية بعيدة عني يختبئ فلا أنتبه له ولا أعيره أي شي سوى التجاهل المقصود ومع الوقت يصبح لا شيء وغير موجود فيأتي وقت لا زمن له ولا لون، لا عنوان ولا ملامح فيقذفني في غيابة الجب بعيداً عن أرض كنت أعرفها ملاذاً وأماناً.
الفقد الذي يعرينا، ويناشدنا أن ننتبه، أن نستيقط من كل الأوهام، من كل الذي نعيشه ولا يزن في الميزان ذرة عند الله، الفقد الذي حين يصدمك يجبرك على أن تفكر وأنت تبكي، أن تركز وأنت حزين، أن تعتزل الكل في حضورهم وتكلم نفسك أياماً محاسباً ومعاتباً، متجرداً من الزخرف والزبد، متحرراً من القيود المجتمعية والأهاويل التي يبهرجها البشر، متصالحاً مع محيطك الذي يفرش لك النعم ويجيرك في خوفك ووحدتك، الفقد هو العزيز الذي رحل ولن يعود، لتكون أنت رسالة عودته وبقائه، صورة وفاء ليستمر في هذه الدنيا باقياً في دعائك وأنت تبكي حين تذكر أن اسمه يتبعه «يرحمه الله»، وعند الله يبقى كل شيء ويحيا، عند الله يصبح الفقد رحمة وسؤالاً واطمئناناً بأن الكون يسير إليه، يعود لأصله ومكنونه، ويصبح سواه هباء منثوراً.
الفقد لا اعتراض عليه لكنه السؤال الذي يذهب ويعود: لمن أجلنا كل شيء، لمن أهدينا حياتنا بدون قيمة، لمن ولماذا تنازلنا عن كل شيء يرتبط بنا للآخر، لماذا ننتظر من لا يهدينا ونتجاهل من يحبنا، لماذا صرنا بلا مشاعر ولا حضور، لماذا ننتفض جزعاً لجرم صغير لا حول له ولا قوة وننسى جبروت ملك الملوك في حضوره وتدبيره ورزقه، لماذا الوقت الذي بين أيدينا نسميه «مللاً وفراغاً» ولماذا نعتقد أننا نملك أصلاً وقتاً في هذه الدنيا، كم من شعرة بيضاء في رؤسنا تنسل صباحاً أمام المرآة على استحياء تتوسلنا أن نعيش ونفرح وننتمي لمن خلقنا؟ لماذا نهول فعل من لاحول له ولا قوة ونعيش حزناً، وننسى نعماً نحن غارقون فيها في دنيا الفناء؟ لمن نمد أيدينا متوسلين والله يطلبنا في كل آن دون أن نفقده.. !
الفقد يا من أحب منبه أغلقناه لكنه يعود صارخاً بقوة، وما زلنا نغلقه وننام..!
التعليقات