من داخل تقاليد القبالة اليهودية، وبالأخص في وسط أوروبا وشرقها، تشعبت أسطورة "الغوليم" (أي الغول بالعربية)، متخذة صوراً وروايات متعددة، منها ما يحكي عن قراءة نصوص مقدسة تتضمن كلمات تبدأ بحروف الأبجدية العبرية، ولها مفعول السحر، إذ تقدر على نفخ الروح في أجساد من طين، وقلبها غيلان خاضعة لصانعها. في أسطورة الراباي (الحاخام) يودا لوي، يصنع الراباي غولاً من أجل الدفاع عن المجتمع اليهودي في براغ ويهاجم مضطهديه. غير أن العنف المروع الذي مارسه الغول، ثبت أنه خارج عن السيطرة ومن المستحيل ضبطه أو ترشيده. هاجم الغول أعداء اليهود بالفعل، لكنه سرعان ما شرع في قتل اليهود أنفسهم وبلا تمييز، وأخيراً تحرك الراباي حتى يعيده إلى الطين مرة أخرى.
وفي واحدة من المعالجات الأدبية للأسطورة، في القصيدة الملحمية "الغوليم" (1920) المكتوبة بالياديشية، للكاتب البولندي يفيك هالبرين، تتمكن شهوة الانتقام من الراباي لدرجة أنه يطرد "المِسايا" ومعه النبي إيليا حين جاءاه للتدخل.
من السهل تبيّن القواسم المشتركة بين أسطورتَي الغوليم وفرانكنشتاين، وفيما تشير الأولى إلى مخاطرة جلب الغيبي إلى الأرضي في عالمٍ قبل حديث، فإن الثانية تعبّر عن مخاوف الحداثة المرتبطة بالعِلم.
في غزة ينفلت الغوليم حقاً، عنف هائل وطقوسي هو أقرب إلى عنف فرانكنشتاين منه إلى غول الراباي. فحكومة اليمين والصهيونية الدينية في تل أبيب، تلقفت رخصة القتل المفتوح التي تسلمتها من الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بعد السابع من أكتوبر، لشن حملة ثأرية مروعة غير مسبوقة في تاريخ الصراع. مذبحة شاملة وعشوائية، لا تكتفي بحصد أكبر عدد من من الأرواح عبر إلقاء آلاف الأطنان من القنابل على الأحياء السكنية، بل تدمّر البنية التحتية بالكامل وتحوّل القطاع إلى برية من ركام غير صالحة للعيش.
الصور الخارجة من غزة يومياً، أشبه بأفلام نهاية العالم، أبوكاليبس توراتي في شموليته وبربريته. كان العنف الانتقامي الواسع متوقعاً منذ البداية، إلا أن الحرب في غزة بالمعنى الصارم هي حرب إمبراطورية، وبالتعريف هي حرب غير متكافئة تخوضها الإمبراطورية فوق القومية، وفي القلب منها الولايات المتحدة، ضد طرف آخر شديد الصغر بالمقارنة هو "حماس". حرب إمبراطورية كوكبية على تنظيم مسلح، يقف في مساحة رمادية وملتبسة بين كونه حكومة الأمر الواقع في غزة وبين تنظيمه كجيش غوريلا، متأهب لخوض حرب عصابات في بيئة حضَرية مفخخة.
الحروب الإمبراطورية في عالم القطب الأوحد، تميل إلى أن تكون عمليات أمنية لها كثافة نيرانية عالية، أكثر منها حروباً بين دول قومية. فالحرب الدائرة تحمل عنوان الحرب على الإرهاب أيضاً، كالعادة، والأهداف المعلنة هي إعادة المخطوفين وتطهير القطاع من "حماس"، وهي أهداف بالفعل على مقاس حرب بوليسية. لكن ثمة ميزة كامنة لدى الطرف الأضعف في الحروب غير المتكافئة. فافتقاده للمركز الممكن تحطميه، قد يجعل الانتصار عليه مستحيلاً.
مهدت الشراسة الهمجية للهجوم الإسرائيلي إلى درجتين من الفشل. الأولى، العجز عن تحقيق أي من أهداف الحملة، لا تحرير الرهائن ولا الظفر بأي نصر معنوي في ما يتعلق بتصفية قيادات "حماس" أو تقييد قدراتها على شن الهجمات وإطلاق الزخات الصاروخية على إسرائيل. والدرجة الثانية من الفشل، وهي الأفدح، فتتمثل في حصيلة القتلى من الأطفال والمدنيين، والمتصاعدة بوتيرة مخيفة، وانجراف آلة القتل الإسرائيلية نحو عنف غولي يحصد أرواح الجنود الإسرائيليين أنفسهم، بنسبة عالية من القتلى بنيران صديقة. وفي المرة الوحيدة التي كادت القوات الإسرائيلية تصل إلى رهائن أحياء، قتلهم الجنود رغم أنهم يرفعون رايات بِيض. المحاولة البائسة لتعويض تلك الخسارات، ببث مقاطع لرجال عراة معصوبي العيون وراكعين في صفوف، خلقت مشاهد تعيد للأذهان هَول الهولوكوست، وجاءت بنتائج دعائية لها أثر عكسي تماماً.
تنهمر الإدانات على الحرب الإسرائيلية من العواصم الغربية واحدة بعد الأخرى. العواصم نفسها التي مانعت الدعوة لوقف إطلاق النار قبل أسابيع قليلة. أما واشنطن، فعلى الرغم من عجرفة لغتها الدبلوماسية العلنية، تدرك أن تورطها ونفخها الروح في الغوليم، جعلها معزولة بشكل مُخزٍ في مجلس الأمن وفي الساحة الدولية. الخسائر المعنوية فادحة، ولم تنزع الغطاء الأخلاقي عن الولايات المتحدة وحدها، بل مجمل الخطاب الإنساني والديموقراطي للغرب.
ببطء، تدرك إدارة بايدن الأثمان السياسية الثقيلة المُرغَمة على دفعها مقابل دعمها المطلق للحرب الجارية. وعلى ما يبدو، فإن قراراً أميركياً بوقف الحرب بات في حكم الأكيد. الأولوية التي أعلنها بايدن هي استعادة بقية الرهائن عبر التفاوض، هدنة طويلة على الأغلب بحلول مواسم الأعياد.
أما بعد هذا، فانتهاء الحرب قد لا يعني نهاية الأعمال العدائية، بل العودة إلى مسار الحرب الدائمة، كما في السابق، أي ما قبل "طوفان الأقصى"، عمليات مستمرة ضد أهداف داخل القطاع، ومذابح محدودة وبطئية وتدريجية قد تستمر طويلاً.
التعليقات