محمد خالد الأزعر

شهادة انطلاق مصطلح «الشرق الأوسط» وذيوعه، مسجلة باسم الضابط والمؤرخ الأمريكي ألفريد ماهان، الذي استخدمه عام 1902، في إطار إشاراته لأهمية الأساطيل البحرية المسلحة في بسط السيطرة والنفوذ العالميين.

مشكلة هذا المصطلح لا تتعلق بمعرفة أصله وفصله، وإنما تكمن في الاختلافات البينة، حول مبناه ومعناه من الوجهتين الجيوغرافية والجيوسياسية، وذلك على الرغم من شهرته وبلوغه من العمر عتياً.

نحن بصدد مصطلح غير متفق على محتواه أو ماهيته، لاسيما لجهة حدوده الجغرافية الصارمة وما يتصل بها ويتفاعل داخلها، من كيانات ذات كتل سكانية وتواريخ اجتماعية وسياسية، وموارد واستحواذات اقتصادية، وتنوعات ثقافية لغوية ودينية وطائفية ومذهبية، وأنماط من التنظيمات والتحالفات الإقليمية والدولية.

والحال كذلك، فإن الشرق الأوسط يغطي، بين حديه الأضيق والأوسع، مساحة عمرانية هائلة يراوح قوامها الجغرافي ما بين 5 إلى 15 مليون كيلومتر مربع، وقد يبلغ قوامها البشري نحو 1000 مليون نسمة، من العرب وغيرهم من الأمم والشعوب بالجوارين الأفريقي والآسيوي!

مناسبة هذه المقدمة، الحديث عن تغيير وجه الشرق الأوسط وخرائطه، الذي راح مؤخراً يتردد، بصيغ مختلفة وبمعدلات فائضة، على لسان بنيامين نتانياهو رئيس وزراء إسرائيل وبطانته من الساسة والعسكريين وقادة الرأي، ومن ورائهم بعض مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية.

بـ«الفم المليان» يدفع نتانياهو، والذين معه، بأن «الضربات والإنجازات العسكرية»، التي تضطلع بها إسرائيل على جبهات غزة ولبنان واليمن وإيران وسوريا والضفة الفلسطينية، مآلها إعادة تشكيل المحيط الإقليمي، بما يعزز موقعها فيه كدولة مركزية.

في نسخة نتانياهو للشرق الأوسط الجديد، تشغل إسرائيل نقطة المحور، التي تدور في فلكها علاقات ثقافية وسياسية واقتصادية وأمنية وسياحية، وتشبيكات إقليمية ودولية خارجية..

وفي هذا الإطار، سيتحول الفلسطينيون إلى جزر سكانية، خاضعة للسيطرة الأمنية الإسرائيلية، ولا مكان لدولة أو كينونة سياسية مستقلة خاصة بهم، ولكنهم سيحصلون على امتيازات اقتصادية.

أثناء احتفائه بالقوة العسكرية، كمحدد حاسم في ترشيحه للمكانة التي يتصورها وبطانته لإسرائيل، لم يعلمنا نتانياهو عن أي شرق أوسط يتحدث؟! والأهم أنه في غضون هذه الغفلة، وربما بسببها، لم يلحظ بشكل موضوعي حجم دولته بكافة مكوناتها، ومدى طاقتها على أداء «الدور الريادي العظيم» الذي يطمح وإياها إليه؟! وهنا يحق لفت انتباهه إلى أن هذا الحجم يظل أصغر بكثير، حتى لا نقول نقطة في بحر، من إمكانية قيادة الشرق الأوسط، بمعانيه وحدوده الضيقة أو القصوى.

إسرائيل حتى ساعتنا هذه، دولة منمنمة جغرافياً وسكانياً، بل وليس لها حدود معلومة على هذين الصعيدين الفارقين، وهي داخلياً موشاة بنقاط الضعف الاجتماعية والقيمية الثقافية والاقتصادية، وتعاني خارجياً مما يصفه حكامها أنفسهم بـ«الأخطار الوجودية»، فضلاً عن فقدانها للهوية والانتماء الإقليميين، ووقوعها إلا قليلاً جداً في أحابيل العزلة الدولية. وهي إلى ذلك متهمة بعصيان كل ما تواضعت عليه الأمم المتحضرة من قوانين.

لا ندري من أين جاءت ثقة نتانياهو، المطلوب بالمناسبة للعدالة الدولية، وأركان حكمه، بأن بوسع دولتهم بمواصفاتها هذه، بسط هيمنتها على «الشرق الأوسط» وإعادة تفكيكه وتركيبه على هواها ؟!

والمثير للسخرية أن هذه العملية الإنشائية الكبرى، سوف تشمل بزعمهم طي الأبعاد السياسية للقضية الفلسطينية، على جلالة قدرها شرق أوسطياً، وإعادة إنتاجها في إهاب اقتصادي بحت.

نحسب أن أصحاب هذا السيناريو، وفي طليعتهم نتانياهو، بحاجة إلى كثير من التواضع في تقدير الذات من جهة، وإلى كثير من الفطنة في سبر أغوار المواقف وردود الأفعال المحتملة تجاه ما يحيكون من جهة أخرى.

أيضاً هم بحاجة ماسة للتخلي عن القناعة بأن التفوق العسكري في لحظة بعينها، المستند كلياً تقريباً إلى مدد خارجي لا يمكن الاستغناء عنه، يكفي وحده لتطويع هذا المحيط والعبث في أحشائه والقعود باطمئنان على قمته.

ومع ذلك، وعلى سبيل التحوط والاحتراز، ربما كان أبناء الشرق الأوسط «القديم» بدورهم، بحاجة إلى حراكات وقائية أو اصطفافات وإجراءات عملية، تقول للكافة: إن زمن «سايكس بيكو» قد ولى إلى غير رجعة.