ما أكثر ما نقول إن «الشيطان يكمن في التفاصيل»، وأصل القول ليس عربياً، فهو ترجمة لمثل إنجليزي، وإن كانت فحواه تنطبق على العرب والأعاجم، وهناك اختلاف حول مصدره الأساسي، ولكن يرجّح أن قائله الأول هو مهندس معماري ألماني المولد اسمه لودفيغ ميس فان دير روه. وكأنّ في القول حثاً على ألّا تخدعنا الصورة الخارجية للشيء، فقد تنطوي على تفاصيل تحمل في ثناياها النقيض، وقد يصح هذا القول خاصة على الاتفاقيات المبرمة بين الأفراد أو حتى الدول، فقد يجري الاتفاق على مبدأ عام، لكن التفاصيل تحول دون تحويله إلى واقع، وقد يُبرَم اتفاق ما، لكنه دون أن ينتبه من أبرموه، أو بعضهم، ملغمٌ بالتفاصيل التي قد تنفجر في أية لحظة فتنسفه، فتعود الأمور إلى ما كانت قبله، وفي بعض الأحيان تصبح أسوأ مما كانت.

لا يصح مع ذلك «شيطنة» التفاصيل على إطلاقها بالقول إن الشيطان يكمن فيها. ثمة تفاصيل هي التي تصنع بهجة الحياة. حتى جمال الحب يكمن في التفاصيل، وربما في أبسطها. من ذاقوا طعم الحب يعرفون ذلك جيداً. تذكرون الأغنية الجميلة للفنان محمد عبده والتي يقول مطلعها: «على البال كل التفاصيل/ على البال/ وأحلى التفاصيل على البال/ والحل والترحال والنار والهيل/ والقمرة اللي نوّرت ليل ورا ليل». قد تنسى الذاكرة أحداثاً مهمة، أو لا تعود تأبه بها بعد حين، ولكنها تحتفظ بالتفاصيل العذبة الباقية «على البال».

كتبت امرأة عاشقة لرجل تحبّه: «حين تغيب لا ينقصني شيء واحد فقط كما كنتُ أحسب.. بل إن كل شيء في الحياة يصبح ناقصاً. لا طعم للأشياء ولا لون ولا رائحة وأنت غائب.. كل ما في الجوار خواء». سواء أقصدت المرأة ذلك أم لم تقصد، انتبهت أم لم تنتبه، فإن ما تتحدث عنه هو «كل التفاصيل» التي على البال.

التفاصيل ليست فقط تلك التي يكمن فيها الشيطان، وليس فقط تلك التي على البال في الحل والترحال، وإنما هي موجودة في أكثر القضايا جوهرية. حكى الشاعر الروسي الشهير يفغيني يفتوشينكو حكاية عن فنان طُلب منه، ذات مرة، أن يرسم «بورتريه» لرجلٍ مهم، ولكن في وجه هذا الرجل المهم كان ثمة عاهة، فإن أظهرها في الرسم قد يؤخذ عليه ذلك، فاحتال بأن رسم وجه الرجل من زاوية نظر جانبية، أو ما يعرف ب«البروفايل».

من نقل الحكاية عن يفتوشكينو هو الكاتب المصري أنيس منصور، وقالها الشاعر في لقاء جمعه، بالإضافة إلى منصور، مع أحمد بهاء الدين وكامل زهيري، وهو يحث على أن نرى الواقع من كافة تفاصيله، لا أن نفعل كما فعل الفنان مع «بروفايل» الرجل المهم.