وليام شكسبير علم في عالم الادب، ويمسك في الادب ناصيات الشعر والمسرح، وهو عند قومه عظيم ككل العظماء عند أقوامهم، وكل العظماء الاصيلين يكونون منار نور تنبعث منه أشعة الادب إلى بقية الامم والشعوب. الشعب الانجليزي يفتخر بمن رفع شأنهم بين الشعوب، حتى صار الشعب الانجليزي يعرف في شخصية شكسبير. شكسبير بالنسبة للانجليز مثل المتنبي بالنسبة للعرب ومثل هوميروس عند الاغريق، وكل منهم يتبوأ موقع الاجلال عند شعبه والتقدير عند بقية الشعوب. حل شكسبير ضيفًا على الحياة عام 1564 وودع الحياة عام 1616م، ولا يعرف احد شيئًا عن هذا الانسان سوى مكان مولده وموضعه في جغرافية الأدب، ما يعني انه ينحدر من عائلة متواضعة، واستطاع بفضل عطائه الادبي في الشعر والمسرح أن يرفع من شأن عائلته وشعبه، وهكذا العظماء الأصيلين دومًا. المعاصرون له والذين قرأوا اشعاره وشاهدوا مسرحياته اعتبروه مجرد أحد الكتاب الموهوبين في المسرح والشعر، ولكن شهرته والارتقاء بمكانته تنعمت عليه بعد وفاته بزمن طويل في أواخر القرن السابع عشر عندما اعتبر قومه انه الكاتب والمسرحي الأعلى للغة الانجليزية.

لكن نعمة التعظيم والشهرة لأي انسان كان، ومهما بلغ من العظمة، فإنه في وسطه الانساني يكون عرضة لأهواء الناس وأذواقهم، والقراءات المتناقضة في أذهانهم عنه وعن أعماله في عصره وفي العصور اللاحقة، وشكسبير ليس استثناء، شأنه، شأن أي عظيم يستحيل عليه أن يبلغ الكمال العصي عن المس والنقد …

الانجليز في عصر شكسبير كانوا مولعين بحضور مسرحياته، وكان الحضور تمثيلًا للمجتمع الانجليزي برمته، من أعلى الهرم في الدولة والمجتمع إلى أبسط الناس من القاعدة الشعبية، ومن أرقى الناس إلى أدناهم رقيًا، ومن بائعي السلع إلى بائعات الهوى، نعم فقد كان الحضور لمشاهدة مسرحيات شكسبير بمثابة مهرجان وطني يتلهف كل مواطن ومقيم أن لا يفوته المهرجان.

هذه المكانة العالية لهذا الانسان المبدع في الادب المسرحي لم تسلم من تناقضات الفكر وتباين الاذواق عند الانسان، ولا عجب في هذا، بل العجب أن تكتسب مكانة الانسان مقام القداسة المحرمة على السؤال والمس والنقد … ولولا السؤال والمس والنقد لما وصل الانسان إلى حيث هو الآن، ولما تطور الادب والشعر والمسرح، ولما تطورت الاذواق وتغذى الفكر واستقام الذهن.

فعلًا لقد تعرض شكسبير إلى نقد شديد وبعضه كان قاس إلى درجة التجريح، ولا شك إن النقد كله ياتي من أمثاله في عالم الادب، وهم من كبار الادباء والمفكرين أمثال الروائي الروسي الشهير ليو تولستوي والمفكر الفرنسي فولتير والاديب جورج برنارد شو، اضافة إلى عدد آخر من الكتاب والادباء، وبعض من الذين حضروا مسرحيات شكسبير.

قبل ان ننقل ما قاله هؤلاء الادباء المشهورين عن شكسبير وأعماله، نعرج على تعليق نقدي جارح من قبل كاتب اليوميات الانجليزي صمويل بيبس، الذي حضر مسرحية «حلم ليلة في منتصف الصيف» في يوم الاثنين الموافق 29 سبتمبر 1662، أي بعد خمسين عامًا من وفاة شكسبير. هذا الكاتب الانجليزي لم تعجبه المسرحية إلى درجة أنه غادر قاعة المسرح بسرعة، وبهذه الكلمات عبر عن انطباعه: «لقد رأينا مسرحية»حلم ليلة في منتصف الصيف«، التي لم أرَها من قبل، ولن أسعى إلى رؤيتها مرة أخرى أبدًا، لأنها مسرحية سخيفة لا طعم لها، وهي من أسوء المسرحيات التي رأيتها في حياتي، وأعترف أنني رأيت في المسرحية بعض الرقصات الجيدة وبعضها كانت رائعة وعددًا من النساء، وكان هذا كل متعتي». طبعًا، ليس من العدل ولا الانصاف ولا الموضوعية الانصياع وراء هذا الحكم القاسي على المسرحية، لانه مجرد حكم فرد قابل للنقد وحتى الرفض، ولا يمكنه ان يقلل من شان شكسبير. هذا الحكم الجارح على شكسبير يثير الدهشة والتساؤل، إلًا أن الأهم من هذا الحكم هو ما قاله كبار الادباء نقدًا في أعمال شكسبير المسرحية.

الروائي الروسي الكبير ليو تولستوي (1828 - 1910)، يفيد بانه قرأ مسرحيات شكسبير كلها مرات عدة بالنص الانجليزي وبترجمات روسية والمانية، إلًا انه لم يستطع ان يستسيغها بالمطلق. وكتب نقدًا مطولًا في مائة صفحة، وهو في عمر الخامسة والسبعين، يصف فيه شعوره بالتقزز والنفور والملل من جميع مسرحيات شكسبير، وبأنه كذبة كبيرة وشر كبير، وأنه يفتقر إلى أدنى فن في الادب، وأن المعجبين به مخدوعون، وكيف ان هذا الاعجاب يشوه فهمهم الجمالي والاخلاقي، وإضافة إلى كل هذا الهجوم اللاذع، فإن تولستوي يصف شكسبير نفسه بالانسان الذي يفتقر إلى الاخلاق... أمر محير فعلًا من موقف هذا الاديب الكبير على المستوى العالمي تجاه من يساويه في الشهرة والعالمية!!!

في فرنسا كان أحد فلاسفة التنوير فولتير (1694-1779) قد سبق ليو تولستوي في نقده اللاذع لشكسبير، ولكن الفرق بين الاديب الروسي والفيلسوف الفرنسي، هو ان فولتير كان معجبًا بشكل مفرط بمسرحيات شكسبير في بداية تعرفه على مسرحياته، حتى أنه سعى إلى محاكاة شكسبير في مسرحياته الدرامية. ولكن هذا الحال من الاعجاب المفرط انقلب إلى نقيضه، حيث صار فولتير من اشد النقاد، وبشكل مفرط. ومن فرط استهجانه بشكسبير كتب رسالة إلى أحد اصدقائه يصف فيها شكسبير بأنه كان همجيًا... يتمتع ببعض الخيال وإنه كتب بعضًا من السطور السعيدة، إلا أن أعماله لا تجد الاستحسان إلا في لندن وكندا. ويخاطب الفرنسيين عن شكسبير قائلًا: «دمي يغلي في عروقي عندما أتحدث إليكم عنه... والشيء الرهيب هو أنني... أنا نفسي من كان، كان أول من تحدث عن شكسبير هذا في فرنسا. كنت أول من أظهر للفرنسيين بعض اللآلئ التي وجدتها في روثه الضخم».

اما عن الاديب والكاتب المسرحي الأيرلندي جورج برنارد شو (1856-1950) يكفي ذكر رأيه في عديله المسرحي شكسبير عندما قال عنه: «لقد بذلت قصارى جهدي إلى لفت نظر الإنجليز على فلسفة شكسبير الخاوية، وعلى أخلاقيته المبتذلة، وعلى ضعفه وعدم تماسكه كمفكر، وعلى غطرسته، وأحكامه المسبقة المبتذلة، اضافة إلى جهله، ما يعني عدم اهليته لكل أنواع السمو الفلسفي التي ادعاها لنفسه».

هناك نقاد آخرون لا يستسيغون أعمال شكسبير ولا حتى شخصيته، وقد اخترنا ثلاثًا من كبارهم والاكثر شهرة في عالم الثقافة والادب، ما يساهم في تعميق الارتباك بين القراء الذين من الصعب عليهم أن يستوعبوا، أو حتى يصدقوا، هذا النقد القاسي الذي يقلل من الشأن الادبي لمسرحيات أشهر كاتب مسرحي في العالم، اضافة إلى الهجوم الشرس على شخص شكسبير ووصفه باللاأخلاقية والجهل والابتذال.

قد يرى فريق بأن هذا النقد والهجوم على شكسبير شرخ في هيكل الأدب، وأمر محير يمس مكانة الادباء، خاصة وأن النقد والهجوم من ادباء كبار ضد اديب كبير، فأين يقف القارئ والمثقف بين هؤلاء الكبار؟!!!

بينما فريق آخر لا يرى ضيرًا بما عبر عنه هؤلاء الادباء الكبار ضد اديب كبير، رغم بعض التحفظ من حدة الهجوم، على اعتبار أن النقد هو السبيل الوحيد إلى التطور، وأنه ليس من عمل ادبي، مهما كان عظيمًا، يمكن اعتباره بالغ الكمال معصوم محصن من النقد، وبموازاة عمل الانسان يكون الانسان ذاته غير المعصومة والمحصنة من النقد.