يعتبر «الذكاء الاصطناعى» من أبرز وأهم مخرجات «الثورة الصناعية الرابعة» التي مازالت تخطو أولى خطواتها، ومنه تستمد تلك الثورة قدرتها على إحداث نقلات نوعية «حضارية» في الحياة البشرية. ومثل أي تطور علمي، فإن للذكاء الاصطناعي إيجابياته الهائلة المتوقعة، جنباً إلى جنب مع مخاطره الفائقة المدمرة، والأمر يعود أولاً وأخيراً إلى وعى الإنسان في توظيف هذه النقلة العلمية – التكنولوجية النوعية لمصلحة البشرية، أو لتدميرها.

ويشير الذكاء الاصطناعي إلى أنظمة الكمبيوتر التي تمتلك القدرة على أداء المهام التي تتطلب في العادة ذكاء بشرياً. ويستند إلى افتراض مفاده أن الوظائف المعرفية، مثل التعليم، والإدراك، والاستدلال، والتخطيط، والإبداع، والتواصل، واتخاذ القرار، قابلة للوصف بدقة لدرجة أنه يمكن برمجة جهاز كمبيوتر لاستنساخها. ويرتبط الذكاء الاصطناعي بمجموعة تقنيات مثل الآلة، والبرمجة، والأنظمة المستقلة.

وعلى الرغم من أن تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي يعود بالأساس إلى خمسينات القرن الماضي، فإن ذلك القرن شهد تطورات أسهمت، بدرجة كبيرة، في حدوث نقلات نوعية في تنامي الاهتمام بالذكاء الاصطناعي، والتقنيات المتصلة، به مثل «الحوسبة الكمية وإنترنت الأشياء، والروبوتات، وأنظمة التسليح المستقلة، إذ أدى التطور السريع للقدرات الحوسبية والبرمجيات وتعلم الآلة، والبيانات الضخمة إلى تنامي اتساع استخدام الذكاء الاصطناعي في أنشطة مثل: الحملات السياسية، وأسواق العمل، وقطاعات مختلفة مثل الصحة والتعليم والأمن والمسائل العسكرية».

ومع تسارع التقدم في مجالات الذكاء الاصطناعي، توالت الدراسات التي ترصد أثر هذا التطور في حقول العلوم الاجتماعية، ومن بينها حقول دراسة العلاقات الدولية، وصنع السياسة الخارجية، فضلاً عن الحقول الأمنية والاستخدامات العسكرية، ومن هنا برز التساؤل عن منظومة القيم البشرية الكامنة في إدارة وتوظيف الذكاء الاصطناعي في تلك المجالات، وكيف يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي وسيلة للنهوض والتقدم، أو على العكس، تكون آثاره تخريبية وتدميرية في ظل تنامي إحلال الآلة محل الإنسان في بعض وظائفه المتعلقة بالمعرفة والأداء والاتصال.

ومن أهم الحقول التي كان يتفرد الذكاء الاصطناعي في القيام بها حقل «العلاقات الدولية»، على سبيل المثال، فكيف سيكون تأثير الانغماس في استخدام الذكاء الاصطناعي في إدارة العلاقات بين الدول، على مستقبل العلاقات الدولية، ومستقبل النظام العالمي؟

ربما يتضمن مثل هذا السؤال تضخيماً لما يمكن وصفه ب«الأزمة» في إدارة العلاقات الدولية، نظراً لأن الأمور ما زالت في بداياتها، لكن الواقع العالمي أخذ يشهد في السنوات الأخيرة تسارعاً في مساحة أدوار الذكاء الاصطناعي في صنع القرارات والسياسات، كجزء من التحولات العالمية التي فرضتها الثورة الصناعية الرابعة على المجتمعات. فالذكاء الاصطناعي آخذ في التغلغل بدرجة ملحوظة في كل ما يتعلق بشؤون العلاقات الدولية، من خلال ما يتيحه من قدرات فائقة في معالجة البيانات الضخمة بما يزيد من قدرة صناع القرار على مزيد من الفهم للظواهر المعقدة، وبناء استراتيجيات أكثر فاعلية لتحقيق أهداف الدول ومصالحها في مجالات كالسياسة الخارجية والتجارة وحركة الأسواق الدولية وغيرها، وبالذات ما يتعلق بتوظيف القوة في العلاقات الدولية، ومجالات مثل الأمن القومي، وما يتعلق بها من مسائل تتعلق بسيادة الدول والتنافس والردع، وغيرها.

هذه المخاوف لم تعد كامنة، بل أضحت ظاهرة عند الدول الكبرى التي أخذت تتوسع في توظيف الذكاء الاصطناعي في دعم صنع قرار السياسة الخارجية، مثل الصين والولايات المتحدة، ومن ثم لم تعد المسؤولية تخص هذه الدول وحدها، في حالة حدوث انتكاسات في أداء «الروبوتات» لوظائف من هذا النوع. والأمر يزداد كارثية بالنسبة لعالمنا العربي الذي ما زال مغيّباً عن الانخراط في مثل هذا النوع من التقدم العلمي المفرط، وعليه أن يدفع أثماناً لأخطاء ليس طرفاً فيها.