حط رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني رحاله في دافوس للاستجمام والاسترخاء، وبالتأكيد ليس للمشاركة الفعالة في الاجتماع السنوي الذي يقام في المدينة السويسرية، ويحضره أثرياء العالم وأصحاب الشركات وممثلو الدول لعقد الصفقات السياسية وإبرام الاتفاقيات الاقتصادية.
فالعراق ليس فيه دولة بالمعنى الأمني والقانوني والسياسي تحمي رأس المال الذي بطبعه جبان كما يصفه ماركس، وفيه حكومة عُوِّم رئيسها وعينه تحالف المليشيات الموالي لإيران، وعدد من أعضائها رؤوس بارزة فيها، ومنهم من دونت أسماؤهم في لائحة العقوبات الأمريكية بتهمة الارهاب، ووظيفتها الوحيدة، أي تلك الحكومة، تعد الصواريخ التي تطلقها المليشيات على القواعد الأميركية، وتحصي الضربات الأميركية على مقرات تلك المليشيات، وبعد الانتهاء من الدوام الرسمي، تصدر بيانات الإدانة للطرفين، وتشجب وتستنكر، وتعلن عن تشكيل اللجان التحقيقية، فهي تقف في مسافة واحدة من جميع الأطراف المتصارعة على الساحة العراقية.
ما حدث في ليل الخامس عشر من كانون الثاني 2024 من ضرب مدينة أربيل بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة من قبل الحرس الثوري الإيراني، يعكس حالة هشاشة الحكومة، والتي تعتبر أكثر الحكومات هزالاً منذ غزو واحتلال العراق في 2003، باستثناء حكومة نوري المالكي التي سلمت ثلث مساحة العراق إلى عصابات داعش.
إنَّ هزال هذه الحكومة لا يكمن فقط في عدم قدرتها على التخلص من "السلاح المنفلت"، وهو الاسم الحركي للعصابات والمليشيات الموالية لإيران، والمضي في بناء صرح الدولة بغض النظر عن محتواها وهويتها السياسية، بل تكمن في تصريحاتها الصحفية التي أقل ما توصف بالمهزلة، حيث تعلن أنها شكلت لجنة تحقيق للبت في القصف الصاروخي الأخير لأربيل، وتُعلم الشعب العراقي بنتائج التحقيق، وليخرج بعدها ممثلها مستشار الأمن الوطني قاسم الأعرجي ليقول إن المنزل الذي تم استهدافه من قبل الحرس الثوري ليس وكراً للتجسس، ويزيد في الطين بلة حيث يضيف أنَّ الوفد العراقي كان لديه اجتماع مع الوفد الأمني الإيراني في الخامس عشر من الشهر الفائت، ولم يبلغهم عن أي شيء، أو أنهم عازمون على الإقدام على جريمتهم. والسؤال هل لدى الحرس الثوري الحقانية والمشروعية لقصف مدينة أربيل، لو كان المنزل حقاً منزلاً للتجسس، ويخبرون الطرف العراقي بيوم الضربة؟ ولكن يبدو أن مفهوم السيادة الذي غطى بيان حكومة السوداني له مفهوم مغاير ومختلف عن بقية حكومات العالم، فالمهم يجب أن يعرف القاصي والداني أن العراق ليس "وكالة من غير بواب" وبغض النظر أنه (لا يحل ولا يربط)!
إنَّ الحقيقة التي تريد أن تعلنها حكومة السوداني للشعب العراقي، مثل الحقيقة التي كشف عنها حول قتلة متظاهري انتفاضة تشرين الأول (أكتوبر)، أو قاتل المحلل السياسي هشام الهاشمي، الذي يتم إعادة محاكمته لإطلاق سراحه بعد أن أدانته المحكمة في عهد حكومة مصطفى الكاظمي، وتحقيقاتها تشبه تحقيقات الحرس الثوري والمسؤولين في الجمهورية الإسلامية بعيد اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني في مطار بغداد في كانون الثاني (يناير) 2020، فهي أعلنت أيضاً حينها أنَّها ستشكل لجنة تحقيق في حادث الاغتيال، في حين صرح الرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترامب أنه هو من أصدر الأوامر بشكل مباشر لتصفية سليماني. ولكن يبدو أن السوداني يكتسب التجربة والخبرة من الجارة إيران. أليست المليشيات الموالية لولاية الفقيه هي من عينته وشكلت حكومته!
إقرأ أيضاً: ماذا ينتظر خامنئي؟
إنَّ من أوصل العراق ليكون ساحة مفتوحة لعبث وبلطجة الحرس الثوري الإيراني وعصابات من المليشيات هي الأطراف الموجودة في الإطار التنسيقي، سواء التي مهدت وأعطت الشرعية لغزو واحتلال العراق في مؤتمر لندن عام 2002، أو التي غيرت جلدها وبوصلتها الأميركية، ولبست جلداً إيرانياً، وتقتدي ببوصلة جديدة. وكل جعجعات الحكومة ذات الصلة بتقديم شكوى ضد إيران في مجلس الأمن وسحب سفيرها من طهران، ليس سوى زوبعة في فنجان وذر الرماد في العيون، ومحاولة لامتصاص النقمة المتنامية ضد النفوذ الإيراني وميليشياته التي ترفع شعار المقاومة والممانعة والقوى المؤيدة لها المتورطة بالفساد والنهب والسرقة على حساب جماهير العراق، وسواء بينتها المعطيات في انتفاضة تشرين الأول (أكتوبر) أو في الانتخابات الأخيرة، حيث تستعر نيران غضب في صدور الغالبية العظمى من جماهير العراق التي قاطعت الانتخابات الأخيرة بنسبة أكثر من 85 بالمئة. ولا تعدو خطوة حكومة السوداني تلك أن تكون أبعد من خطوة دعائية وإعلامية، كما أقامت الدنيا ولم تقعدها في إخراج القوات الأميركية بعد قتلها أحد قادة المليشيات المنضوية تحت لواء الحشد الشعبي. وببساطة، سلطة الإطار التنسيقي المستبدة والفاسدة التي تقف خلف حكومة السوداني وتساندها قائمة على دعامتين: الأولى الدعامة الأميركية والثانية الدعامة الإيرانية وميليشياتها في العراق، وبانهيار أي من الدعامتين، فلا قائمة تقوم لهذه السلطة الجائرة بالمعنى المطلق.
وقد وضع إعلان الحرس الثوري الإيراني مسؤوليته عن قصف مدينة أربيل الإطار التنسيقي في وضع لا يحسد عليه، ومن جانب آخر عمقت نتائج انتخابات مجالس المحافظات التي نظمت في 18 كانون الأول (ديسمبر) 2023 من أزمتها، حيث جاءت النتائج مخيبة للآمال، وليس بسبب مقاطعة أكثر من 85 بالمئة للانتخابات، بل بسبب فشلها في إزاحة مخالفيها من المحافظات سواء المحاذية لإيران مثل واسط والبصرة، أو في إحدى قلاعها الرئيسية مثل كربلاء، فضلاً عن بغداد والموصل التي سخرت فيها كل ميليشياتها وأموالها وإمكانياتها، ولذلك لجأت إلى فذلكة قانونية للتخلص من معارضيها بإصدار قرار وزاري من قبل مجلس الوزراء بإبعاد جميع المحافظين السابقين.
إقرأ أيضاً: إيران وفشل نظرية ولاية الفقيه
بمعنى آخر، إنَّ مأزق السوداني وحكومته هو مأزق نفس تحالف الميليشيات وأحزابها السياسية الذي يسمى بالإطار التنسيقي، حيث تتضارب فيه المصالح والرؤى، لكنها متفقة على تصفية المعارضين السياسيين وحسم مصير السلطة السياسية، وجاءت رياح حرب غزة بما لا تشتهي سفنها، وبدأت تلك الرياح التي يعتبرها الإطار التنسيقي رياح سموم تتحول إلى عاصفة ترابية عاتية تضرب جذور المعادلات السياسية في المنطقة ومنها العراق.
بالنسبة إلى إيران، فإنَّ إطلاق الصواريخ الباليستية من قبل الحرس الثوري لقصف مدينة أربيل بهذا الشكل، والإعلان عن مسؤوليته وعرض المسيرات التي شاركت في القصف أيضاً في وسائل الاعلام، وخصوصاً بعد الضربات الأميركية - البريطانية على حلفاء إيران في اليمن، إنما الهدف منه الحيلولة دون المساس بالنفوذ الإيراني في العراق، ودرء أي مخاطر تتهدد المصالح الإيرانية بشكل مباشر وغير مباشر، بعد أن وجدت طهران أنَّ ضربات المليشيات الموالية لها على القواعد الأميركية في العراق غير مجدية. فضلاً عن ذلك، فإنَّ الضربات الصاروخية المتزامنة على العراق وسوريا وأفغانستان أو بلوشستان باكستان تمثل جزءاً من خلط الأوراق للتعمية على الهدف الحقيقي المشار أليه، وتصب أيضاً في خدمة ترقيع صورة إيران التي تخدشت، ومحاولة لإعادة الاعتبار لها، بعد قتل 12 من قادة الصف الأول للحرس الثوري في سوريا وعلى رأسهم رضوى موسوي الشهر الفائت، وتفجيرات مدينة كرمان في ذكرى اغتيال قاسم سليماني.
إقرأ أيضاً: سُعار السلطة وسُعار القوة
وأخيراً، تواجه حكومة السوداني والتحالف التنسيقي استحقاقاً كبيراً أمام الجماهير التي لفظتها وقاطعت انتخاباتها، وبات صبرها ينفذ، وهو استحقاق تريد سواء الحكومة أو الإطار الميليشاتي طمسه أو ترحيله عبر إشغال الجماهير بالتهليل الدعائي وبالقصف الإعلامي، تارة بشعار المقاومة والممانعة ونصرة القضية الفلسطينية، وطوراً بإخراج القوات الأميركية من العراق، وحديثاً برفع لواء الاحتجاج ضد الحرس الثوري الإيراني، ذلك الاستحقاق هو تحقيق الأمن والأمان، وتوفير فرص العمل لأكثر من 12 مليون عاطل عن العمل، وسيادة الحرية والرفاه في بلد يقبع على كنوز هائلة.
التعليقات