لبنان أسير معادلة خطيرة مفروضة بقوة طرف منظّم ومسلّح وصاحب مشروع، وضعف قوى ليست ضعيفة بل مستضعفة وعاجزة عن التحالف ضمن كتلة شعبية تاريخية مشروعها بناء الدولة: إما جمهورية بلا رئيس، وإما رئيس بلا جمهورية. وهذا بالطبع سابق لفتح «حزب الله» جبهة الجنوب لإسناد «حماس» في حرب غزة ضد العدو الإسرائيلي. لكن ربط كل شيء في لبنان بنهاية حرب غزة يضيف المزيد من التعقيد الى الوضع الداخلي المعقّد والمفتوح أصلاً على الوضع الخارجي المعقّد إقليمياً ودولياً. فلا المسعى الأميركي والأوروبي لفك الإرتباط بين جبهة الجنوب وبين حرب غزة تحت عنوان الحؤول دون حرب شاملة تهدّد بها حكومة نتنياهو، ولا ترغب لا هي ولا إيران و»حزب الله» ولا أكثرية اللبنانيين في الوصول اليها، سوى تمارين في العبث بالنسبة الى «المقاومة الإسلامية». ولا الهدف الأصغر الذي يقال إن «الخماسية» العربية والدولية تعمل له، وهو فك الإرتباط بين ملء الشغور الرئاسي وبين استمرار التقاصف عبر الجبهة الجنوبية مع استمرار الحرب في غزة، تبدو حظوظه واقعية بمعزل عن صفقة إقليمية مع طهران. وما أدراك ما الصفقة مع الملالي!
ذلك أن اللعبة أكبر من الشغور الرئاسي الذي صار تكراره هو القاعدة بعد نهاية كل عهد. وليس بتباين الآراء والمواقف ولا سهواً ولا بالغلط بل ضمن استراتيجية في خدمة مشروع يتم العمل له على مراحل، كان إبقاء الجمهورية بلا رئيس. وأي محاولة جديدة، كما أكدت المحاولات المتعدّدة السابقة، للتفاهم على رئيس يتم انتخابه، مرشحة لأن يضعها فريق التعطيل في إطار المعادلة الخطيرة المفروضة على لبنان: إما بقاء الجمهورية بلا رئيس، وإما المجيء برئيس بلا جمهورية بالمعنى العملي.
مفهوم أن الحاجة الى رئيس كانت ولا تزال أولوية ملحّة، بصرف النظر عن الحواجز والموانع. والمنطق الطبيعي الذي تستخدمه قوى عدة في الداخل والقوى العربية والدولية المتعاطفة مع لبنان هو ضرورة وجود رئيس من أجل شيء دائم وآخر طارئ. الدائم هو إعادة الانتظام الى المؤسسات. والطارئ هو أن يكون حاضراً حين تدق ساعة التفاوض على استعادة الباقي من الأرض المحتلة ودور لبنان وموقعه في الترتيب الإقليمي لمرحلة ما بعد حرب غزة. لكن المفهوم أيضاً أن هذا منطق صوري ونظري. فماذا يستطيع أن يفعل رئيس جمهورية، ولو كان وفاقياً توافقياً لا مرشح طرف، إذا كانت الحرب دائرة بقرار من خارج المؤسسات الشرعية، وهو عاجز عن التأثير فيها؟ وأي حياة وانتظام في مؤسسات محكومة من داخلها وخارجها بطرف قوي نافذ، وسط تعليق الدستور عملياً؟
الأجوبة على الأرض. فالقوى الإقليمية التي تلعب بلبنان والمنطقة تراهن على الأزمات، لا على التسويات، لأن مشاريعها تنضج على نار الأزمات قبل الوصول الى طاولة التفاوض. والقوى الداخلية التي تفتقد الى التوازن السياسي وتبدو عاجزة عن استعادة الوزن الوطني للبلد من أيدي الخاطفين، تدور في حلقة مفرغة يستحيل أن تملأها الشعارات مهما تكن صحيحة ومهمة. ومن هنا الحاجة الى عمل راديكالي لتغيير اللعبة القاتلة.
يقول الفيلسوف الفرنسي جان بودريار:» لا يكاد التاريخ ينفصل عن زمن الدورة حتى يسقط في نظام إعادة التدوير». وليس من المعتدل أن يبقى حاضر لبنان ومستقبله رهينة التدوير.
- آخر تحديث :
التعليقات