لاحظ بعض الزملاء أنني أفضل الجلوس في الصف الخلفي، فسألني أحدهم لماذا لا تجلس في المكان الذي يليق بك وهو الصف الأمامي، فقلت له إنني لا أهتم كثيراً بكوني في الأمام أو الخلف، رغم أن البرتوكول في بعض اللقاءات يحدد أماكن جلوس الضيوف. هذه العادة قديمة، وبينت لصاحبي أن الرغبة في مكان يجعلني أرى الجميع وأشعر بردود أفعالهم وهي جزء من رغبتي في متابعة أي حدث والصف الأمامي يجعل الأغلبية خلفي فلا أتمكن من مشاهدة الحدث بشكل كامل. لا أنكر أنه استغرب من هذا الرأي فهو يرى الجميع يتنافسون على احتلال كرسي في الأمام وأنا لا أمانع بكل طواعية أن أجلس في آخر صف. في البداية يجب أن أذكر أن رغبتي هذه ليست نابعة من تواضعي وعدم اكتراثي بتقدير الناس لي بل من فكرة قديمة وجدت أنها تساعدني على رؤية الأشياء والأحداث بهدوء. أستطيع أن أقول إنها إحدى الآليات التي تساهم في تعزيز المقدرة النقدية من خلال توسيع المشاهدة واكتشاف الروابط بين الحدث ومن يصنع الحدث والمآلات التي ستؤول إليها نتيجة الحدث.
قبل أيام شاركت في ورشة العمل الذي نظمتها بوابة الدرعية حول تجربة تعليمية معمارية فريدة بمسمى "مختبر الدرعية المعماري" "دال" Diryah Architectural Lab، وهي عبارة عن تجمع طلابي في مرسم لمدة فصل دراسي كامل، من أربع جامعات اثنتان منها من الرياض واثنتان من خارج المملكة بمشاركة ثمانية طلاب وطالبات من كل جامعة. على غير العادة كان مكاني محجوزاً في الأمام ولم أغيره، ولكن عندما قدمت مداخلتي شاهدت الحضور المتنوع وأسفت أنني لم أجلس في الصف الخلفي وأراقب ردود أفعال الطلاب على المداخلات. تأكدت أن ميزة "المراقبة" و"المشاهدة الشاملة" تختفي كلما تقدم الإنسان في الصفوف، والمسألة هنا ليست مرتبطة بالمتعة بقدر ارتباطها بالمعرفة. لا أعلم لماذا أشعر أن المشاهد تكون أبطأ عندما أشاهدها من الصف الخلفي، فغالباً أجد أن التفاصيل أكثر وضوحاً عندما يختفي المشاهد وسط الجمهور ولا يلاحظه أحد.
في كثير من الرحلات الرسمية كنت أفضل أن أكون أقل سرعة من زملائي في الحركة وغالباً ما كنت أكون في آخر الفريق وذلك حتى أستطيع أن أرى بشكل أوضح، ورغم أن هذا الأمر كان يجعلني بعيداً عن رئيس الفريق الذي كان يطلب وجودي بقربه أحياناً إلا أنني لم أغير من هذا السلوك أبداً. في إحدى الرحلات إلى الأندلس في إسبانيا كنت رئيس الفريق، وهذا مثّل مشكلة لأن الحركة أصبحت بطيئة نوعاً ما فقد كان "سلوك المشاهدة" يغلب على حركتي أكثر من مجرد زيارة الأمكنة بشكل عاجل، أذكر أن بعض الزملاء اشتكى من بطء الحركة ومكوثنا فترات أطول من المخطط له، فقلت لهم نحن بحاجة إلى أن نستوعب ما نراه وليس أن نرى فقط. ربما ارتبط هذا السلوك بالرغبة في فهم ما وراء المنظور، أي الانتقال من تفسير الظاهر بالظاهر إلى فهم الكامن فيما نراه، وأعتقد أن الجلوس أو البقاء في الخلف يساهم في المشاهدة بعين نقدية واعية وواسعة.
في إحدى الزيارات إلى "الحرملك" في قصر "توبكابي" في إسطنبول ذكر لي المعمار عبدالواحد الوكيل أن أفضل المشاهد هي التي تتركها خلفك، فقلت له إن الفريق يتجه بسرعة إلى الأمام ولم أشاهد أحداً يلتفت إلى الخلف، فقال لي: "لذلك هم لا يشاهدون الأهم". ربما يتفق معي البعض أن قدرات الإنسان على المشاهدة الشاملة تتطلب بعض البطء في الحركة واختيار الموقع المناسب الذي يسمح بمشاهدة التفاصيل، لذلك عندما تكون صانعاً للحدث لا تستطيع أن ترى كل شيء. مهمة الناقد أن يكون في الصفوف الخلفية وأن يلتفت للخلف ليتمكن من فك الروابط بين الأحداث واكتشاف العلاقات الخفية التي تجمع بينها. هذا لا يقتصر على ما نشاهده بعيوننا بل إن التموضع في الصفوف الخلفية في الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية يسمح للناقد أن يرى بأربع عيون وليس بعينين فقط. قوة النقد تكمن فيما لا يراه عامة الناس وتأثيره يظهر في قدرة الناقد على المشاهدة الشاملة التي تتجاوز المنظور.
بقي أن أقول إن فكرة "المقعد الخلفي" قد تكون مجازية أكثر من كونها مادية، وربما المسألة تتعلق بقراءة ما بين السطور، وهذه تتطلب أن يفصل الناقد نفسه عن الحدث حتى يستطيع قراءته. هذا يجعلني على قناعة أنه كلما كان الناقد مستقلاً ومحايداً كلما استطاع أن يرى التفاصيل بوضوح، فما يجعل الأبصار تعمى هو كونها تشاهد الجزء الذي نريد أن تراه ونتجاهل باقي المشهد. أحد الاكتشافات المهمة، بالنسبة لي على الأقل، أن المقعد الخلفي يضمن للمشاهد أن يبقى خارج صندوق الأحداث التي يشاهدها وهذا في حد ذاته الخطوة الأولى لبناء نقد مستقل ومحايد
التعليقات