ألحّ على خاطري تساؤل يبحث عن إجابة.. هل هذا التأييد من دول أوروبية لإسرائيل، وهي شاهدة على ارتكابها جرائم الإبادة الجماعية ضد المواطنين العزل من رجال ونساء وأطفال في قطاع غزة، راجع إلى شعور الأوربيين بالذنب؟
نحن نسمع اليوم أصواتاً زاعقة في دول مثل بريطانيا وألمانيا – على سبيل المثال – تساند إسرائيل، وهذا ليس ادعاء، لكنها شهادة خبراء ومؤرخين من الدول نفسها، بأنها كان لها السبق في ممارسة الإبادة الجماعية، في مستعمراتها أيام كانت تستنزف ثروات أراضي تحت احتلالها بكل قسوة، وبلا أي شعور إنساني بالندم.
وأمام ذلك، فنحن نتساءل: هل ما ترتكبه إسرائيل اليوم، يحرك الذاكرة الأوروبية والقابعة في عمق تاريخهم، ما يدفعنا بالضرورة للنبش في ملفات تاريخهم؟
في سنوات احتلالهم في إفريقيا وآسيا وجزر الباسفيك، وممارستهم للقتل والاستعباد والقهر لشعوب أخضعتها لاحتلال أراضيها، وحتى عندما نضج وعي هذه الشعوب لمقاومة المستعمرين المحتلين بحركات التحرر الوطني، استخدمت كافة وسائل العنف والقسوة ضدهم.
إن مراجعهم التاريخية لم تستطع محو هذا التاريخ الأسود من ذاكرة هذه الدول، وأمام المراجعة التاريخية المتعددة، فإنني توقفت أمام مرجع أوروبي حديث عنوانه: (تاريخ العالم: «الاستغلال والمقاومة»).
تبدأ أولى صفحاته بالقول إن الدافع الأساسي في بداية احتلال القوى الاستعمارية لمستعمراتها، كان هدفاً اقتصادياً لنهب ثروات المستعمرات واستغلال السكان الوطنيين. وراحو يروجون لخطاياهم بالزعم بأن استعمارهم سوف يحسن من حياة أهالي المستعمرات. ورغم هذا الادعاء فإنهم لم يتخلصوا من القسوة غير الإنسانية عليهم. بل إنهم دمروا حياة البشر هناك وبلا رحمة، وهم يستغلونهم في كل صور العمل الشاق.
ومن أمثلة الاستغلال غير الإنساني، إرغامهم للسكان على جنى ثمار المطاط من على أشجاره، وهو ما كانت نتيجته كشط جلود أجسامهم. وكثيراً ما كانوا لا يعطونهم أجوراً، وإنما يكتفون بوجبة طعام قليلة بديلاً عن الأجر. وضماناً لخضوع الرجال في قرى بأكملها للعمل من دون أجر، فإنهم يحتجزون زوجاتهم وأطفالهم كرهائن.
وأحياناً ما كان الجيش الأوروبي يقتل الذين يقاومون العمل القسري، أو يحاولون الهرب، وأحياناً تقطع أيديهم.
إحدى صور هذا البطش بالناس قدمها الكاتب الإنجليزي جوزيف كونراد في روايته «قلب الظلام»، (Heart Of Darkness)، ويصف فيها ما رآه بنفسه من وحشية الأوربيين من بلاده، وغيرها، ومنها مستعمرات في الكونغو.
ويقول جوزيف كونراد – على صفحات روايته التي تعكس الصورة الحقيقية للواقع الاستعماري، إن الاستعمار الأوروبي الاستيطاني تسبب بتدمير المجتمعات الإفريقية الإنسانية، والتي كان الأوربيون يدعون كذباً– أن ما يفعلونه هو ما يسمونه «عبء الرجل الأبيض». وذلك لتبرير استعمارهم وإبادة من يقاومون سلوكهم غير الإنساني.
بعد عرض تلك الصور لمؤرخين أوربيين، فإنهم وصلوا بنا إلى العصر الحديث، الذي بدأت تعلو فيه أصوات في بلادهم تقول: هل تعتذر أوروبا عن انغماسها في ممارسة الاستعمار، والاستغلال، والاحتلال، والقهر، وإبادة الشعوب؟
واقترن بهذا السؤال تساؤل مكمل له هو: وهل يكفي الاعتذار عن التكفير عن خطاياهم؟
وكان الدافع إلى هذه التساؤلات بدء إعلان بعض دول أوروبا عن اعتذارها، منها على سبيل المثال اعتذار هولندا رسمياً، بعد مرور 250 عاماً على ممارستها للعبودية، وتجارة الرقيق. وفي عام 2021 أعلنت ألمانيا الاعتذار عن دورها في مذابح ارتكبتها في ناميبيا، وصلت إلى حد الإبادة الجماعية.
وأعلن ملك بلجيكا عن عميق أسفه للجراح التي أصابت سكان الكونغو على يد أسلافه. ثم كان ما أعلنه رئيس دولة البرتغال بقوله: يجب على البرتغال الاعتذار عن دورها في تجارة الرقيق.
ثم كان ما أعلنه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في يونيو/ حزيران 2021، باعترافه بدور فرنسا في مذبحة الإبادة في رواندا عام 1994، وقال «إنني أعترف اليوم بمسؤوليتنا عن هذه الإبادة»، وكان ذلك خروجاً على سابق إنكار فرنسا مسؤوليتها عن ممارسة الإبادة.
معنى ذلك، أن ما تم إخراجه من ملفات التاريخ من أن دولاً أوروبية – ومنها بريطانيا وألمانيا – قد مارست الإبادة الجماعية، واستغلال شعوب الأراضي التي احتلتها غصباً، ونهبت ثرواتها، هو الذي أثار إلحاح السؤال: هل كان الدعم بلا حدود من هذه الدول لإسرائيل، وأمام عينيها ممارستها للإبادة الجماعية، وقهر الفلسطينيين تحت الاحتلال، واستغلال أراضيهم، هو انعكاساً للشعور الأوروبي بالذنب، باعتبارهم كانوا السباقين في ارتكاب نفس ما تفعله إسرائيل اليوم، بحيث إنهم لم يجدوا في أنفسهم القدرة على إدانتها؟
وحتى لو حاولوا إيجاد أعذار لما ترتكبه إسرائيل من جرائم، إلا أن دعمهم لإسرائيل وهي ترتكب تحت أنظار العالم جرائم الإبادة الجماعية، يجذب الأنظار ويدفعها دفعاً نحو سجلات تاريخهم القديم في ممارستهم الإبادة الجماعية.
التعليقات