يقول لنا المنتقدون إن الغرب بصورة عامة والولايات المتحدة بصورة خاصة قد فشلوا في مواجهة القوى والتيارات الإسلاموية، على رغم أكثر من عقدين من حروب مدمرة مع جماعاتها المسلحة من أفغانستان إلى العراق وسوريا فليبيا والساحل وصولاً إلى القرن الأفريقي. ويذهب البعض إلى التهكم على الدول الأطلسية بأنها لم تحم نفسها من هذه الجماعات فأضحت تعبث بأمن الدول الأوروبية والغربية نفسها. وبات السؤال يطرح فعلاً في الغرب والشرق: لماذا فشلت أميركا والعالم الحر في كبح جماح ما يعرف بـ"الجهاديين" في العواصم الغربية، ويعرف بالجماعات الإسلامية المسلحة في العالمين العربي والإسلامي؟ سؤال كهذا لا يبرئ الشرق من تقصيره، وأحياناً في بعض الحالات، من مشاركة بعضه في دعم المتطرفين وتغطيتهم. ولكن أخطاء أميركا والغرب كانت أكبر في العقدين الماضيين حيال هذه التيارات المتطرفة، لأنها قادت حرباً طويلة، كلفتها مليارات وأدت إلى خسائر بشرية، وعلى رغم إطلاقها "الحملة العالمية ضد الإرهاب" فإنها في الوقت نفسه هندست الشراكة مع بعض هذه الجماعات. فهل أدت السياسة الغربية إلى استفحال "التكفيريين" في وثباتهم الإقليمية بدلاً من تراجعهم؟ لننجح في التقييم الأولي لا بد لنا أن نميز بين الفترات الرئاسية الأميركية المتتالية منذ انتهاء الحرب الباردة وبخاصة بعد ضربات الـ11 من سبتمبر (أيلول).
التسعينيات
مع سقوط الاتحاد السوفياتي، كما أعلن عديد من محللي ومهندسي هذه الحركات، وبخاصة منذ انعقاد مؤتمر الخرطوم تحت إشراف الدكتور حسن الترابي في 1991 و1992، تطورت الحركات الإسلاموية المقاتلة إلى تيارين أساسيين، تيار عامل داخل العالم الإسلامي ويؤجج الجبهات من الفيليبين إلى أفغانستان إلى كشمير فمصر والصومال والجزائر والشيشان، وغيرها. التيار الآخر الذي ضم "الجهادية القتالية" بدأ بإقامة قواعده الدولية، بخاصة في أفغانستان مع سيطرة "طالبان" وتموقع "القاعدة". خطأ الغرب الأول كان بالتخلي عن التعاطي مع أفغانستان وترك "طالبان" تلتهمها، والخطأ الثاني كان بتساهل إدارة كلينتون بتسرب النفوذ الإخواني منذ منتصف التسعينيات إلى الداخل الأميركي. وأدى هذا النفوذ إلى تحريف النظرة الأميركية إلى الجماعات الإسلاموية، ومن ثم تمييع الرد عليها، ومن ثم إضاعة وقت ثمين لفترة عقد قبل ضربات الـ11 من سبتمبر.
بعد الـ11 من سبتمبر
إدارة الرئيس بوش قلبت السياسة المائعة حيال الجماعات بعد مجازر نيويورك وواشنطن وأسقطت "طالبان" وصدام حسين، وشنت الحرب ضد الإرهاب، أي عملياً ضد القوى التكفيرية، ونسقت مع الدول العربية والإسلامية لمواجهة التطرف. إلا أنها ارتكبت بعض الأخطاء، وأهمها أولاً اجتياح العراق من دون إضعاف النظام الإيراني والسماح للميليشيات الخمينية باختراق العراق، مما صعب قدرة التحالف على إنهاء "القاعدة" وما انبثق عنها، ثم عدم خوض حرب أيديولوجية ضد الإسلامويين في أفغانستان، والاكتفاء بمد وجذر مع المجموعات المقاتلة. وأخيراً عدم إصلاح المراكز التربوية في أميركا نفسها حيال برامج الدراسات الشرق أوسطية لتحسم الحرب الفكرية لدى الرأي العام الأميركي. أضف إلى ذلك عدم تواصل الإدارة مع الفصائل العربية والإسلامية المعتدلة في داخل الولايات المتحدة، فمرت ثماني سنوات استمر فيها "الستاتيكو" مع "الإسلاميين السياسيين والقتاليين".
عهد أوباما
فترة باراك أوباما كانت واضحة حيال التعاطي مع "الإسلاميين السياسيين". فمنذ يونيو (حزيران) 2009 توجه الرئيس أوباما إلى حركاتهم عالمياً عبر خطابه في جامعة القاهرة والتزم شراكة استراتيجية بين الولايات المتحدة والتيارات الإسلامية، ودعا إلى فك الاشتباك وإنهاء المواجهة مع جماعاتهم المسلحة. ومع انفجار ما يسمى بـ"الربيع العربي" انحازت إدارته كلياً للإخوان والميليشيات الإسلامية على حساب الليبراليين والمسلمين الإصلاحيين والأقليات، ولا سيما الحكومات المحافظة الوطنية الحليفة. فضحت إدارة أوباما بحكومات مصر وتونس، ووقفت مع "إسلاميي" ليبيا وسوريا واليمن وفلسطين، وتخلت تدريجاً ولكن بدبلوماسية عن القيادة السعودية والإماراتية. فتجابهت بيروقراطية واشنطن مع معارضات التكفيريين في المنطقة وفتحت أبوابها لمؤيدي الإخوان وإيران في وزاراتها ومؤسساتها. نعم قتلت أسامة بن لادن ولكنها مكنت "الموضوعيين" في التيار الإسلامي العريض. فاكتسب هذا الأخير قوة هائلة لفترة عقد تقريباً، قلب فيها كل سياسات بوش بعد 2001.
ترمب
الرئيس دونالد ترمب قلب السياسة الأميركية من جديد حيال المتشددين والإسلامويين، إن كان بضربه الشديد لـ"داعش" وإسقاط "خلافتهم"، أو بإعلاناته المتشددة تجاه الإخوان وتفرعاتهم. ولكن إدارته، وبعضها بتأثير من شركات الضغط المتعاقدة مع قطر أم مع الحكومات الحليفة كأنقرة وطرابلس، توقفت عن تنفيذ سياسات المواجهة مع الإسلاميين، خارج مجابهة "داعش". إلا أن التزام ترمب نفسه مبادئ إنهاء التطرف ودعم الاعتدال العربي والإسلامي عبر خطابه في قمة الرياض، أبقى سياسة واشنطن على هذه السكة حتى انتهاء عهده في 2020، لا سيما مع قيادته آلية توقيع معاهدة "أبراهام".
بايدن
إدارة الرئيس جو بايدن أعادت العجلة إلى الوراء، فأحدثت زلزالاً مخيفاً في صيف 2021 بتسليم أفغانستان إلى "طالبان"، باعثة الأمل في صفوف الجماعات المقاتلة، وانقضت على أقرب الحلفاء القادرين على مساعدة أميركا ضد هذه التيارات. فوضعت الإدارة ضغطاً غير طبيعي على الرياض والقاهرة وأبوظبي لتخفيف حدة برامجهم لإضعاف القوى الإسلامية في المنطقة والعالم. وأدى ذلك إلى استئساد هذه التيارات من جديد، وتغول المجموعات التابعة لها داخل الولايات المتحدة سياسياً.
أميركا والغرب باتا ملعباً لصراع بين لوبي إسلاموي ممل وصاحب تأثير وكتلة تواجهه، لذلك ضاعت المجتمعات المدنية والدول المعتدلة في المنطقة من كثرة تناقض السياسة الأميركية تجاه القوى الإسلاموية في الشرق الأوسط.
التعليقات