نشرت الصحافة العربية في 21 فبراير الجاري، أن المملكة جاءت في المركز الأول عربياً والثالث عالمياً بعد الهند وجمهورية الدومينكان، وذلك وفق مؤشر تنمية التجزئة العالمي لعام 2023، الذي يقيم كل عامين 44 سوقاً نامياً حول العالم، وقد كانت في المركز الثاني عشر عام 2021، بمعنى أنها تقدمت تسعة مراكز، ولعل هذا يعود في جزء منه، إلى ارتفاع مبيعات سوق التجزئة السعودي، في الفترة مابين عامي 2021 و2013، من 119 مليار دولار إلى 249 مليار دولار، والقطاع يمثل ما نسبته 23% من الموارد غير النفطية في الوقت الحالي، وتجارة التجزئة في المملكة تعتبر الأسرع نموا على المستوى الدولي وبنسبة تصل إلى 39%.
وزارة الشؤون البلدية في المملكة تهتم كثيرًا بقطاع التجزئة، وبالأخص فيما يتعلق بالغرامات والحوافز، وتدرس في هذه الأيام لتدرج في إجراءاتها العقابية، ومراجعة العقـوبات التي يصعب تنفيذها، مع تمييز من يتقيدون بالمعايير والشروط النظامية وتقديم المكافآت لهم، لأن تجارة التجزئة أكبر مساهم من القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي وبنسبة 10%، بخلاف أنه الموظف الأول للسعوديين من الجنسين وبنسبة 30% من إجمالي التوطين، والمعنى أنه يقوم بدور بارز في الاقتصاد الوطني، وفي تراجع أرقام البطالة إلى 8%، لأن قطاع التجزئة يركز على التوظيف خارج المدن الرئيسة، والتي توجد فيها بطالة أعلى.
في دراسة سعـودية أجريت مؤخرا، وشملت الشركات الكبيرة والمتوسطة بقطاع التجزئة في المملكة، خلال العشرة أعوام الماضية، لوحظ أن أرباحها تراجعت من 20% إلى 7%، والمعدل معقول بالنظر إلى حضور ضريبة القيمة المضافة، ومعها التضخم وارتفاع أسعار الفائدة العالمية، وكلاهما يمثل معاناة لمعظم الدول على اختلاف قدراتها الاقتصادية، ومن الشواهد التاريخية الصادمة، ما حدث في المجر عام 1946، فقد كانت الأسعار تتضاعف كل 15 ساعة بفعل التضخم، ووصلت نسبته اليومية إلى 200%، بمعنى أن الأسعار كانت ترتفع كل ساعة في دائرة لا تتوقف، وفي آخر اليوم تكون قيمة السلعة مضاعفة.
بخلاف أن أعداد العمالة السعودية ارتفعت، ولم يواكبها ارتفاع مشابه في المبيعات، وتناقصت هوامش الربح وتعطل النمو، وقد ترتب عليهما إغلاق مجموعة من فروع التجزئة في المدن الصغيرة، وشل قدرتها على طرح وظائف جديدة، ما سيوثر في أرقام البطالة مستقبلاً، ويؤدي إلى تراجع مساهمة القطاع في الناتج الوطني، ويخفض مشترياته من المحتوى المحلي، والمؤكد أن قطاع التجزئة يمثل الواجهة الأهم لبناء قطاع صناعي قوي في المملكة، والعارفون يحملون التستر واقتصاد الظل مسؤولية ذلك، ويعتبرونه السبب الأول في عدم استفادة الاقتصاد السعودي، من حوالي 54% من إيرادات قطاع التجزئة، لأنه لا يدخل البنوك، ولا يمكن الاستفادة منه في التوظيف، بالإضافة لوجود أكثر من خمسة مليارات وثلاثمائة مليون دولار، تذهب لمصلحة شركات عالمية، تعمل من خارج الأراضي السعودية، وتبيع منتجاتها داخل السوق السعودي.
في الحالة السابقة تصعب بالتأكيد المنافسة بين التاجر المحلي ونظيره الأجنبي، وتحديداً من يدير أعماله من خارج الدولة، لأن الثاني لا يعنيه توطين الوظائف أو حتى التوظيف من الأساس، ولا يفيد المحتوى المحلي بشيء، ولا يدفع إيجارات لمحال في الداخل، ولا يخضع للأنظمة المحلية أو يدفع ضريبة، ولا يلزم بمطابقة منتجاته للمواصفات والمقاييس السعودية، وبالتالي فهو يبيع منتجاته بأسعار منافسة، قد تصل إلى نصف قيمتها في سوق التجزئة السعودي، ولعل ما سبق يفسر جاذبية السوق المتصاعـدة في مؤشر التجزئة العالمي، وارتفاعها من 75,8 درجة في 2021 إلى 81,7 درجة في 2023، فالقطاع غير محدث ومتأخر في تنظيماته، ولا يقارن بالمعمول به في دول العشرين، ولدرجة أن الأجهزة المشرفة عليه من القطاع العام، تنتقد ما تعتبره معـدل دوران عالٍ لوظائفه، والذي يصل إلى ما نسبته 67% سنويا، وترغب في إقرار أنظمة ولوائح تطيل مدة خدمة موظفيه، وعلى طريقة المسار الوظيفي الحكومية، والحقيقة أنه دون المتوسط مقارنة بالمعدلات العالمية، فدوران وظائف التجزئة في المملكة يعتبر ثاني أقل معدل بعد هونغ كونغ.
الأنسب في اعتقادي هو التفكير في استراتيجية أو برنامج وطني لقطاع التجزئة، وإنشاء هيئة حكومية مستقلة تدير شؤونه وتوحد أعماله، بعيدا عن (منشآت) ومنصة التجزئة الحالية، التي تعمل بطريقة غير فاعلة، وتضع تصنيفات ليست دقيقة، فالمطاعم والفنادق تدخل في تجارة التجزئة، لأن منتجاتها تأتي على شكل أطعمة جاهزة أو وحدات سكنية، بالإضافة إلى أنها لا تقدم معلومات مفيدة أو ذات دلالة، وتجارة التجزئة لازالت متواضعة في القطاعات السياحية والثقافية والرياضية، رغم أن الصناديق السيادية في المملكة تدعمها، والجمعية الوطنية للتجزئة في أميركا، صاحبة تجربة عمرها يتجاوز المئة عام، ولديها برامج تدريبية محترمة، وفيها تبادل للخبرات والمهارات، ويشارك أعضاؤها في تحسين تشريعات القطاع، وأجد أن تجربتها تستحق النقل والتطوير.
التعليقات