على هامش مؤتمر علمي في الذكاء الاصطناعي جنوبي كاليفورنيا، مرتدياً قميصاً قصير الأكمام بلون محايد، يتجول يودوفسكي على مهل بطول مسار ترسمه أشعة الشمس المتقطعة، بخطوات واعية وغير متعجلة. يختار كلماته بعناية، مع حفيف أوراق الخريف الجافة ونداءات الطيور الخافتة، يتبين التناقض الصارخ مع الموضوع الخطير الذي يتناوله حديثه المتوتر.
يلتفت قليلاً، ليضمن وصول كلماته التي تسبح ضد موجات هواء إبريل المعتدلة، تخيل عالماً ذهب بكل صديق وكل فرد من أفراد أسرتك التي تحبها، حيث محتهم الآلات نفسها التي نلعب بها اليوم. يتكلم بإحباط شديد، وإن تجلد بصبر مصطنع لشرح فكرة معقدة أعيته: معظم الناس ببساطة لا يرون الخطر المحدق. نبرته التي تخونه، تخفي توتراً مشوباً بالسخط، مشوش البال كمن يبحث عن مفاتيح بيته المفقودة وهو يحل معادلة رياضية من الدرجة الثانية في ذهنه، لكن ثمة شظية أمل صغيرة حتى الآن، مجرد فرصة بحجم الذرة أن تنجو البشرية من كل ذلك.
بصفته الباحث الرئيس في معهد (أبحاث الذكاء الآلي) في بيركلي، كاليفورنيا؛ يشارك يودوفسكي رؤيته المتشائمة من منصته غير الربحية في كل مكان. هذه الرؤية التي يقشعر لها البدن، حيث يتحول الذكاء الاصطناعي ضد مبدعيه، تشهد على الانشطار الأخلاقي الذي يعيشه العصر الحديث. في حين أن يودوفسكي وآخرين يدقون ناقوس الخطر بشأن الكوارث المحتملة للذكاء الاصطناعي، تتكشف رواية موازية على المسرح العالمي من القسوة الإنسانية والحروب والإنكار المستمر للحقوق المشروعة.
في رسالة مفتوحة نشرت في مجلة التايم العام الماضي، طالب بإيقاف جميع مختبرات الذكاء الاصطناعي على الفور لمدة ستة أشهر على الأقل للتوقف عن تدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي الأكثر قوة مثل تشات (جي بي تي). إنه تجاور محير، فمن ناحية، يوجد قلق عميق بشأن تهديد الذكاء غير البشري، ومن ناحية أخرى، اللامبالاة الظاهرية تجاه مظاهر القتل والدمار التي تحيط بنا من كل جانب.
يسلط التفاوت في الاهتمام الضوء على سؤال مقلق حول أولوياتنا، كيف نوفق بين هذا الخوف الشديد على المستقبل وصم الآذان عن مقارع الظلم الفولاذية التي تطرق أبوابنا؟ كيف يصرفنا الانشغال بتهديدات الذكاء الاصطناعي الافتراضية عن معالجة قضايا حقوق الإنسان الحقيقية التي تصيب مجتمعاتنا اليوم؟
الانقسام الأخلاقي صارخ، حيث المفارقة، تركيز مكثف على المخاطر الوجودية التي يشكلها الذكاء الاصطناعي مقابل اللامبالات تجاه الوحشية التي تجيد عقد ربطة عنقها الملونة أمام الصحافة العالمية. توجد المفارقة المستفزة في السيطرة على مفهوم حقوق الإنسان وتوظيفه سياسياً، والانشغال بمصائر المستقبل على حساب واقعنا المرير، ما نخشاه ليس تمرد الذكاء الاصطناعي، إنما انصياعه لما يستودع فيه من توحش الإنسان المعاصر ليعاد إنتاجه أكثر عنفاً وقوة، لأن بوصلة الأخلاق فشلت في الإشارة إلى جذور المشكلة التي تشعبت في النفس الإنسانية.
التعليقات