يعيش العالم على وقع تغيّرات جيوسياسية كبرى تدفع القوى العظمى والقوى الصاعدة إلى الدخول في سباق تسلّح محموم، لاسيما بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، وتجنُّد كل الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة، من أجل إضعاف روسيا، وفق ما صرّح به وزير الدفاع الأمريكي. وتشهد الصناعات العسكرية في العالم تحولات استثنائية متلاحقة على مستوى التقنيات المتقدمة، وعلى مستوى القدرات الإنتاجية في مجالات الأسلحة الثقيلة، وصناعة الطائرات، التقليدية والمسيّرة، إضافة إلى تركيز الدول على صناعة الذخائر تحسباً لاندلاع حروب ومواجهات جديدة على مستوى العديد من بؤر التوتر.
وبالنسبة إلى الصناعات العسكرية، تتصدّر الولايات المتحدة -حتى الآن- قائمة المنتجين والمصدّرين، وقد استفاد مركّبها الصناعي- العسكري، من الحرب في أوكرانيا لتعزيز طاقته الإنتاجية، والاستجابة من ثم للطلبات الكبيرة على السلاح القادمة من القارة العجوز التي يسود لدى دولها شعور ضاغط بضعف الأمن في مواجهة التهديدات الروسية؛ وتشير الإحصائيات إلى أن تزايد الإنفاق العسكري العالمي أخذ منحى تصاعدياً لافتاً للنظر بداية من نهاية التسعينات، من القرن الماضي، بخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول سنة 2001 والتي تزامنت مع عودة روسيا لممارسة دورها الجيوسياسي في العالم، في مواجهة ما تراه محاولة غربية للهيمنة على العالم من خلال توسيع حلف «الناتو» وجعله على مشارف حدودها مع أوروبا.
ويمكن القول إنه في الفترة ما بين 2016 و2020 استطاعت الدول الغربية أن تهيمن على القسم الأكبر من صادرات الأسلحة في العالم، حيث نالت الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، حصة الأسد في سوق الأسلحة، على الرغم من احتفاظ روسيا بمرتبتها الثانية في قائمة كبار المصدرين، كما أن الصين، ورغم التطور الهائل الذي عرفته صناعاتها العسكرية في الفترة نفسها، إلا أنها لم تحتل سوى المرتبة الخامسة خلف ألمانيا وفرنسا وروسيا والولايات المتحدة؛ ويرجع المراقبون ذلك إلى توجيه الصين للجزء الأكبر من إنتاجها العسكري لتلبية احتياجاتها الدفاعية، لمواجهة التهديدات الإقليمية، وللتصدي لمناورات واشنطن الهادفة إلى حصارها عبر شبكة القواعد الأمريكية المنتشرة في تايوان، والفلبين، وكوريا الجنوبية، واليابان.
وتعكس الميزانية العسكرية الأمريكية المذهلة، التي باتت تقترب من عتبة 900 مليار دولار في السنة، حرص واشنطن على المحافظة على ريادتها بالنسبة للإنتاج والتصدير العسكري، وتعكف في المرحلة الراهنة على ابتكار وتطوير أنظمة دفاعية وهجومية فتاكة، تعتمد بالدرجة الأولى على الخبرة الكبيرة التي حصل عليها أقطاب الصناعات العسكرية في أمريكا في مجال التكنولوجيات المتقدمة، والذكاء الاصطناعي، وبالتالي فإن الخبراء الدوليون يؤكدون أن القدرات العسكرية لواشنطن ستظل ذات تأثير حاسم في المشهد العسكري عالمياً، لعقود من الزمن، لاسيما بالنسبة إلى الأسلحة الهجومية التي تستخدم تقنيات إلكترونية بالغة التطور، والتعقيد.
وبالتالي، فإنه، وفي مواجهة هذا التقدم العسكري الواضح للولايات المتحدة، تحاول روسيا والصين اعتماد تكتيكات قادرة على التأثير في الاستراتيجيات العسكرية السائدة في العالم؛ إذ إن موسكو سعت خلال السنوات الماضية إلى تركيز جهودها العلمية والتقنية في مجال الإنتاج العسكري على الصناعات الصاروخية، وحقّقت في هذا المجال تقدماً غير مسبوق، على مستوى تطوير الصواريخ فرط الصوتية التي تتجاوز قدراتها قدرة المنظومات الدفاعية الأمريكية؛ ويعدّ صاروخ «أفانغارد»، أبرز المنظومات الصاروخية القادرة على تعديل مسارها والوصول إلى أهدافها بسرعة فائقة، وتحاول روسيا أيضاً أن تحدث مزيداً من التطوير على الأسلحة القادرة على تدمير الأقمار الصناعية الأمريكية، لجعل المنظومات الهجومية الأمريكية عاجزة عن أداء مهامها.
وتعمل الصين في السياق نفسه، على جعل صناعاتها العسكرية تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وهي تملك في هذا المجال قدرات باتت تقلق واشنطن كثيراً، ودفعتها مؤخراً، إلى ممارسة حصار تجاري على الصين في ما يتعلق بتصدير الرقائق وأشباه الموصلات التي تلعب دوراً حاسماً في الصناعات الدفاعية، وتسعى الصين أيضاً إلى تعويض تواضعها التقني في مجال الصناعات البحرية، من خلال إنتاج كميات مهولة من الزوارق والطرادات والسفن الحربية، مع تزويدها بالصواريخ المتطورة لمواجهة التفوق العسكري الأمريكي في شرق آسيا.
ويؤشر هذا التطور المطرد في مجالات الصناعات العسكرية في الصين، على بوادر تحوّل آسيا إلى مركز ثقل موازٍ للصناعات العسكرية الغربية، لاسيما في شرق هذه القارة، فقد قرّرت اليابان رفع ميزانيتها العسكرية لاقتناء معدات عسكرية جديدة، ولتوطين بعض الصناعات العسكرية لحماية أمنها القومي، والشيء نفسه نجده لدى كوريا الجنوبية التي تحولت إلى أحد المساهمين البارزين في تطوير الصناعات العسكرية، وباتت الدول الأوروبية، وفي مقدمتها بولندا، تستورد أسلحة ذات تقنية عالية من سيؤول؛ ومن المنتظر أيضاً أن تواصل الهند تطوير قدراتها الصناعية في المجال العسكري خلال السنوات المقبلة، مستفيدة من تعاونها مع موسكو، وواشنطن، وباريس.
وعلاوة على كل ما تقدم، فإن هناك قوى إقليمية صاعدة تتجه بخطوات متسارعة نحو تطوير قاعدة صناعية عسكرية متطورة في الشرق الأوسط، كما هو الشأن بالنسبة إلى الإمارات والسعودية ومصر وتركيا وإيران، الأمر الذي سيكون له، على المدى المنظور، تأثير واضح في موازين القوى في العالم.
التعليقات