«هل مات النقد»، والمقصود هنا النقد الأدبي خاصة؟. سؤال أصبح مطروحاً بقوّة خلال السنوات الأخيرة، أمام تراجع ملحوظ لحضور هذا النقد في حياتنا الأدبية والثقافية عامة، مقارنة بالدور المحوري الذي اضطلع به في مراحل سابقة في تقديم المنتج الإبداعي، حيث أدى دور الجسر بين هذا المنتج والقراء، الذين كانوا يثقون بالعدّة النقدية الرصينة للنقاد ولذائقتهم.
اليوم تصدر أعمال مهمة وتبقى على أرفف المكتبات أو في مخازن دور النشر ووزارات الثقافة في العالم العربي، من دون أن يدري عنها أحد، لكي لا نقول يقرأها، لأن النقد تخلى عن مهمته، مكتفياً باللهث وراء الأسماء اللامعة وحدها. وقبل سنوات تساءل أحد الشعراء الشباب بمرارة: «هل هناك فائدة من الكتاب؟ هل هناك فائدة من شيء أصلاً ؟»، ويعبرّ كثير من من ذوي المواهب عن حسرتهم على جيلهم الذي افتقد من يأخذ بيده، ما جعل مصير كثير من إبداعات الشباب الضياع وسط الزحام رغم جودتها.
هناك من يعزو الأمر إلى انحسار عدد من يمكن أن نطلق عليهم النقّاد المفكرين، أي أولئك الذين يجمعون بين أمرين: الأول هو ما يمكن أن نطلق عليه العدة التقنية اللازمة لكل ناقد، من حيث معرفته باللغة وتقنيات الكتابة وأجناسها، والثاني هو القدرات المعرفية التي لا تتوافر إلا عند الناقد الذي يحبس نفسه في الخانة التقنية وحدها، فلا يرى النص في سياقه الشامل، فكرياً ومجتمعياً.
ومع الإقرار بأن مهمة الناقد الاشتغال على النص الأدبي، ولكن هذا النص ليس منبتّ الصلة عما حوله، إن في البيئة التي إليها ينتمي منتجه، أو في السياق المعرفي العام الذي بلغته الحركة الفكرية والثقافية لا في مجتمعه وثقافته الوطنية وحدهما، وإنما في ما بلغه الفكر الإنساني عامة.
أحد المآخذ على بعض النقد الرائج الآن، هو الميل إلى حشو هذا النقد باستشهادات ومفاهيم لمفكرين ونقاد أجانب، ومن ثم ليْ عنق النص المدروس لتجليسه، قسراً، على تلك المفاهيم، التي أنتجت في سياقات إبداعية وفكرية مختلفة، فيما المطلوب ليس حفظ تلك المفاهيم عن ظهر قلب كما يفعل الطلبة المجدّون في المدارس والكليات، وإنما في تمثلها، وهي مهمة شديدة التعقيد، خاصة أن هؤلاء المشتغلين بالنقد يطلعون على تلك المفاهيم مترجمة إلى العربية، ما يطرح السؤال عما أبقته الترجمة من النص الأصلي، على الأقل من روحه وجوهره؟ ومن جهة ثانية فإن المترجم مهما كانت كفاءته قد لا يجد في العربية المفردات المطواع التي تنقل جوهر الفكرة التي يترجمها، لأن اللغة ابنة التطور الثقافي والفكري لمجتمعها، وحين يصاب الفكر بالجمود تكف اللغة ذاتها عن التطور والمرونة.
وعودة إلى ما بدأنا به، نقول: لا ضير، لا بل واجب أن تنال أعمال الأسماء الأدبية الكبرى التي صهرتها تجربة الحياة الطويلة ما هي أهل له من اهتمام وإضاءات نقدية وإعلامية.
التعليقات