وضع وزير الخارجية، الأمير فيصل بن فرحان، النقاط فوق الحروف وعكس مشاعر العرب والمسلمين، وعبّر عن مواقف كثير من أصحاب الضمائر الحية والرؤى الصادقة في جميع أنحاء العالم وهو يرفض تناقض النظام العالمي في التعامل مع قضايا حقوق الإنسان، والازدواجية التي تتعامل بها الدول الكبرى التي تستخدم تلك القضايا السامية كمطية لتحقيق أهداف سياسية ومصالح ذاتية أبعد ما تكون عن تلك المفاهيم النبيلة، وتستخدم قوتها وتأثيرها السياسي لفرض وجهات نظرها على الآخرين.
وبكلمات واضحة ومؤثرة ومفردات بليغة خاطب الحاضرين في اجتماعات الدورة الـ (55) لمجلس حقوق الإنسان المنعقدة في مقر الأمم المتحدة بمدينة جنيف السويسرية، مؤكدًا ضرورة التوصل إلى قواسم مشتركة تراعي حقوق الإنسان وتحمي مصالحه وتصون كرامته، بعيدًا عن دهاليز السياسة ودروبها المتعرّجة، يكون المعيار الرئيسي فيها هو الحقيقة بدون أي مزايدات أو مساومات.
خطفت كلمة الأمير فيصل انتباه الحضور لأنها كانت نابعة من القلب، وعبَّرت عن تطلّع الكثيرين نحو العدالة، مطالبًا الأمم المتحدة بإصلاح آلياتها وتحقيق الأهداف التي أنشئت من أجلها، مؤكدًا اهتمام المملكة باستمرار تعاونها الوثيق مع آليات الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الإنسان، التي تنطلق في تعاطيها مع مفهوم هذه الحقوق من منظور شامل يرتكز على حماية الفرد والمجتمع، وتحسين جودة الحياة، وتمكين عوامل التنمية والنهضة الشاملة.
وكانت الفقرة التي حظيت بتسليط الضوء الإعلامي عليها هي التي تتعلق بالأوضاع في فلسطين وما يشهده قطاع غزة من مآس يشيب لهولها الأطفال، وما تتعرض له من مذابح يومية طيلة الأشهر الماضية، مؤكدًا أن استمرار هذا الوضع يضع علامات استفهام كثيرة حول الطريقة التي يتعامل بها المجتمع الدولي ومؤسساته العدلية مع هذه القيم، وهل يتم النظر للإنسان على أنه كائن يستحق التكريم أم أن الأمر في عرف الدول الكبرى يعتمد على الأديان والأعراق؟
وبصراحة متناهية قال إن أي حوار مؤسسي حول حقوق الإنسان لا يمكن أن يؤخذ على محمل الجد إذا أغفل الوضع المأساوي في فلسطين، وتساءل: عن أي حقوق نتحدث وغزة تحت الرماد؟ كيف للمجتمع الدولي البقاء ساكنًا وشعب غزة يهجّر ويشرّد ويعاني من أبشع صور انتهاكات حقوق الإنسان؟.
ولفت إلى أن المملكة دعت مرارًا المجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته في إيقاف الحرب والتصعيد غير المسؤول؛ حماية للمدنيين الأبرياء وتمهيدًا لعملية سلام واضحة ذات مصداقية تحظى بالتزام جميع الأطراف، محذرًا من التداعيات الكارثية لتهديدات اقتحام مدينة رفح، التي أصبحت الملاذ الأخير لمئات الآلاف من المدنيين، نتيجة التهجير القسري لجيش الاحتلال الإسرائيلي.
وشرح حجم المأساة التي يعيشها سكان غزة وفصولها المؤلمة، مشيرًا إلى سقوط 30 ألف قتيل، واستهداف الأطفال وقتل المسنين والنساء، وتدمير المرافق الصحية والبنية التحتية، وتجويع أكثر من مليوني شخص، وانعدام الأمن، وانقطاع الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء ودواء، وتشريد الملايين، دون أن تلوح في الأفق بوادر حقيقية مشجعة لوقف آلة القتل والدمار.
وبكلمات حملت كل معاني الانتقاد والأسف، أشار وزير الخارجية السعودي إلى أن مجلس الأمن لا يزال يخرج من اجتماعاته دون نتيجة، معربًا عن رفض المملكة لازدواجية المعايير والانتقائية، ومطالبتها بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم (2720) وتفعيل الآلية الإنسانية بموجبه، ورفع القيود عن دخول شاحنات الإغاثة والمساعدات الإنسانية، لرفع المعاناة غير المبررة. وجدد دعوة المملكة إلى وقف فوري لإطلاق النار بما يمهد لعملية سلام جادة وعادلة وشاملة.
كما نبه إلى ضرورة احترام حق الإنسان في الاختلاف، محذرًا من السعي لفرض قيم مختارة على الجميع، ومطالبًا بمراعاة الاختلافات بين الدول والمجتمعات. ورغم وجود قيم ومبادئ عالمية مشتركة، فإن ذلك لا يلغي حق الدول والمجتمعات بأن تتبع المنظومة القيمية التي تتناسب مع تنوعها الثقافي والاجتماعي، لأن ذلك حق أصيل من حقوق الإنسان ويعتبر مصدر ثراء وتنوع.
هذه الانتقائية والازدواجية التي استمرأت المنظمات الدولية التعامل به مع قضايا حقوق الإنسان هي السبب الرئيسي في تدهور مكانتها على الصعيد العالمي وعدم التقدير للقرارات التي تصدر عنها، فالعالم سئم من الدلال الأمريكي لدولة الاحتلال الإسرائيلي، والتعامل معها على أنها فوق القانون، وغض الطرف عن ممارستها الوحشية البشعة بحق الشعب الفلسطيني الأعزل، دون مراعاة لضمير أو قيم، ودون خوف من مساءلة أو محاسبة.
وعلى العالم الانتباه إلى جزئية مهمة، هي أن ما تفعله إسرائيل اليوم في غزة يدعم تيارات العنف والإرهاب ويضخ الدم في عروقها من جديد، ومصداقًا لذلك فقد أصدر المرصد السوري لحقوق الإنسان إعلانًا خلال الأيام الماضية أشار فيه إلى أن تنظيم داعش بدأ ترتيب صفوفه من جديد، وأنه قام منذ بداية العام الحالي بقتل أكثر من 100 مدني وعسكري في 50 عملية نفذها على الأراضي السورية. وهذا الإعلان الصادم أكدته مصادر أخرى أشارت إلى أن التنظيم يخطّط للعودة من جديد بحشد أكثر من 10 آلاف متطرف.
ونعلم جميعًا أن ممارسات إسرائيل العدوانية بحق المدنيين الفلسطينيين تعزّز دعاوى الجماعات الإرهابية مثل داعش والقاعدة، التي تستغل مشاهد الدماء العربية لخداع البسطاء والعوام، فتجندهم في صفوفها، وترسلهم كقنابل بشرية لإسقاط أكبر قدر من الضحايا، بذريعة أن تلك العمليات تصب في خدمة الإسلام والمسلمين.
لذلك أرى أن العالم مطالب اليوم بوقفة قوية، وإجراء أكثر قوة، يعيد الحق المسلوب إلى أصحابه، ويردع حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، ويكبح جماحها، ويوقف ممارساتها المتهورة التي تدفع المنطقة والعالم بأسره نحو مزيد من التوتر وإسالة الدماء.
- آخر تحديث :
التعليقات