بين الشعر والسرد سيرة تكامل، مهما حاول الشعراء والساردون تغيير هذا المتلازمة التاريخية فاللغة واحدة والفوارق شكلية، ولا فضل لشاعرٍ على ساردٍ إلا بالنجوى، لكن هناك حقيقة تاريخية ضمنية تشير دائماً إلى أن العرب لم يكونوا يوماً قوم رواية، أو قصة، أو حتى قصيدة نثر..
حين اختاروا من الشعر العمودي أو «البيتي» سيرة لتاريخهم، حَمَلَتْ وحُمّلتْ واحتملت أحداثهم ومآثرهم وبطولاتهم ومصائبهم، والواضح في كل ذلك بروز الشاعر الذكر وتصدّره المشهد مقارنة بشاعرة أو شاعرتين أو ثلاث يجود بهن التاريخ بين حقبةٍ وأخرى، ولظروف وحوادث خاصة.. فالخنساء مثلاً لم تكن لتطفو على سطح التاريخ الشعري القديم لولا مرثياتها في أخيها صخر..
حتى كأننا لا نعرف للخنساء شعراً غيره بل إن قصائد الخنساء كلها قامت على حصرٍ متوارث للأمجاد الذكورية التي جمعتها لأخيها صخر في مرثياتها التي تناقلها التاريخ وحفظناها عن ظهر حب تجلت فيها عاطفة الأخت تجاه أخيها. وحتى بعد أن تمدّنت الحياة في «الأندلس» على سبيل المثال وظهرت «ولادة بنت المستكفي.. لم تكن لتحضر بيننا لولا جرأتها المثيرة في علاقتها مع الذكر - كما أراد لها الرواة - من ناحيةٍ، وارتباط تاريخها بالشاعر الأندلسي الكبير ابن زيدون. وربما يبدو للبعض من خلال ما سبق إقصائية للأنثى من تاريخنا الشعري القديم وتغييباً قاسياً لها.. لكننا نحاول أن نستعرض التاريخ لقصيدتنا «العمودية» التي ظل إيقاعها عند العرب مقدّساً..
حتى تحطم هذا الصنم الذكوري على يد الشاعرة العراقية «نازك الملائكة» في الأربعينات من القرن الماضي عبر قصيدتها «الكوليرا» التي يعدها الدارسون أول قصيدة عربية تحطم عمود الشعر القديم. ومن الطريف في الأمر أن أول معجم عربي لشعراء العصر القديم لابن سلام الجمحي ( 757- 846م) جاء بعنوان « طبقات فحول الشعراء « وفي العنوان إقصاء ضمني للأنثى بني عليه الكتاب من خلال اختيار مفردة «فحول» مما يعني تغييباً كاملاً لشاعرات الزمان القديم على فرضية وجودهن..! في المقابل لم يحمل تاريخ السرد لدينا اسماً أشهر من شهرزاد التي تتجلى على شفاتها الروايات وتتوارد المواقف والأحداث حتى باتت أيقونة ملازمة لكل حكايات التاريخ وأساطيره وخرافاته، على الرغم من أن هناك محاولات حكاياتية تمثلت في مقامات الحريري مثلاً أو حتى بعض الرسائل النوعية كرسالة ابن شهيد الأندلسي التي توالدت بالشعر وإليه، في حين جاءت رسالة الغفران للمعري بطابع فلسفي أخرجها من دائرة السرد التقليدية، وأدخلها في دائرة الطرح الفلسفي كما هو شأن رحلة «حي بن يقظان» التي تتابعت كتابتها عبر أكثر من فيلسوف» « ابن سيناء / ابن النفيس/ ابن الطفيل « ...
وعليه فإن القصيدة القديمة بشكلها البيتي ظلت دائماً ذكورية المنشأ إقصائية المعتقد فيما يتعلق بالأنثى، وربما امتدّ هذا البعد إلى اليوم.. فنادراً ما نقرأ قصيدة بيتية خالدة لشاعرة على الرغم من تطور الشعر كموضوعات ومحتوى واستيعابه لتقنيات عصرية ولغة متجددة إلا أن هيبة القصيدة العمودية جاءت غالباً بزيّ ذكوري متوارث، ومع تطوّر أشكال الشعر وأنماطه بدا لنا أن قصيدة النثر قالباً ملائماً ومدهشاً للقصائد الأنثوية وتتجلى خلاله تلك التفاصيل اليومية الصغيرة التي تبدع الأنثى في إحصائها وتبتكر دائماً في خلقها.
التعليقات