أعادنا مقال لزميلنا يوسف أبولوز في زاويته اليومية، إلى حكاية تماثيل أُسود كوبري قصر النيل في القاهرة، حيث استوقفته الحكاية، وهو يقرأها في كتاب الأديبة الإماراتية ميسون القاسمي عن «مقهى ريش». تقول الحكاية إنه في يوم الإعلان عن تلك التماثيل بعد إنجازها، وقف النحّات جاكمار الذي أبدعها «يتحدث عن تصميمه الفريد المتناسق»، كما ينقل أبولوز عن كتاب ميسون، متباهياً، أي الفنان، بخلو التماثيل من أي عيوب، لكن لم يخطر في ذهنه أن طفلاً قادماً من قرية ريفية سيضعه في موقف محرج. سمع جاكمار ذلك الطفل المأخوذ بالتماثيل التي يراها يسأل أمه الواقفة بجواره، وهو يشير إلى أحد التماثيل: «هُوَّ فيه أَسَدْ من غير شنب»، وحين انتبه النحّات إلى هذا الخطأ، انصرف وترك الحفل، ويقال إن خيبة الأمل التي واجهته حملته على الانتحار.
بصرف النظر عما إذا كان نحّات أسود كوبري قصر النيل قد انتحر أم لا، فإن الحكاية ذكّرتني بحكاية انتحار فنان آخر، هو أيضاً كان نحّاتاً، قرأت عنها منذ زمن، وتدور أحداثها في إحدى دول المعسكر الاشتراكي السابق قبل انهياره وتفكك الاتحاد السوفييتي، والحكاية هي موضوع متخيّل لرواية عنوانها «الصرح» لكاتبة فرنسية اسمها إلساتر يولي، وصدرت في خمسينات القرن الماضي، وكما كانت تماثيل أسود كوبري قصر النيل سبباً في انتحار من نحتها، فإن تمثالاً أيضاً كان سبباً لانتحار النحّات في الرواية الفرنسية.
لا يصوّر التمثال الذي أقيم في الدولة الأوروبية الشرقية أُسوداً، وإنما كان تمثالاً للزعيم السوفييتي جوزيف ستالين، أراد به النحّات، واسمه في الرواية «لفكا»، الذي وجد نفسه محمولاً على الانخراط في المقاومة الشعبية ضد الاحتلال النازي لبلاده، وحين سقطت النازية اختير وزيراً للثقافة، وجرى تكليفه بصنع ذلك التمثال، في نوع من الوفاء أرادت حكومته التعبير عنه لدور السوفييت في تحرير بلدهم من احتلال هتلر. بعد أن أنجز الرجل التمثال المطلوب، وجده سيئاً، بل وقبيحاً، لم يرتق إلى مواصفات العمل الفني المطلوب، وتعبيراً عن خيبته أيضاً قرر الانتحار وفعل.
أثارت تلك الرواية، يومها، ضجّة في الوسط الثقافي في فرنسا، بالنظر لطبيعة تلك المرحلة سياسياً وثقافياً، وتلقت كاتبتها الكثير من الرسائل من زملائها الكتّاب ومن القراء العاديين كذلك، الذين أبدوا آراء مختلفة حول مضمون روايتها، التي تصدت لمناقشة العلاقة الإشكالية المعقدة بين الأدب، والثقافة عامة، من جهة والسياسة من جهة أخرى، وبدا انتحار ذلك النحّات تعبيراً درامياً عن تعقّد تلك العلاقة. تركزت الأسئلة يومها على: هل كان يصح تكليف «لفكا» بهذا العمل؟ وهل كان عليه أن يقبل التكليف؟
التعليقات