قبل أيام بسيطة، احتفلت «الهيئة الملكية للجبيل وينبع» بتدشين هويتها الجديدة بعد مرور 50 عاماً على تأسيسها، وحينها كان الراحل الملك فهد بن عبد العزيز أول رئيس لها، وظل في هذا المنصب حتى عام 1991، مما يدل على أهميتها.

الهيئة رأت النور لتنويع الاقتصاد السعودي، وتمكنت، من خلال استغلال الغاز المهمل الذي كانت تحرقه «أرامكو» عندما كانت أميركية، من بناء قطاع بتروكيماويات قوي ومناطق اقتصادية وسكنية إلى اليوم تشكل قاطرة للاقتصاد السعودي، ونموذجاً للعمل والعيش.

والجبيل التي بنتها شركة «بكتل» الأميركية، وينبع، هما عماد الهيئة لليوم، رغم توسعها الآن لتشمل رأس الخير وجازان.

وعندما نتحدث عن الجبيل وينبع نتحدث عن قطاع البتروكيماويات المهم جداً للاقتصاد السعودي والصادرات غير النفطية، والمهم كذلك لسوق الأسهم، إذ إن شركات البتروكيماويات تقود مؤشر تداول صعوداً وهبوطاً، كل يوم.

لكن هل البتروكيماويات، اليوم، هي مستقبلنا مثلما كانت قبل 50 عاماً؟! لا أعتقد ذلك، رغم أن غالبية الطلب على النفط ستأتي في المستقبل من قطاع البتروكيماويات، لكنه قطاع يشهد تحديات.

ففي عالم يتجه نحو الاستدامة، وإعادة التدوير، ومحاربة البلاستيك، والتشديد على الاشتراطات البيئية، فإن فرص النمو تتضاءل. نعم سيكون هناك طلب من السيارات والطائرات وأشياء كثيرة أخرى، ولكنه ليس القطاع الذي سينمو بأرقام مضاعفة.

قد تكون الكيماويات المتخصصة أكثر حظاً لأنها تدخل في أمور دقيقة ومعقّدة أكثر من الإيثيلين الذي يدخل في صناعة العبوات البلاستيكية، وهو ما يجعلنا نترقب بتفاؤل مشروعاً رائداً لتحويل النفط مباشرة إلى كيماويات، الذي تنفذه «أرامكو» و«سابك».

والذي ينظر لـ«رؤية 2030» يجد أنها تركز على صناعات أخرى؛ مثل التقنية العميقة، والسياحة، والتعدين، التي لم تصل للنضج الذي وصلت له البتروكيماويات.

وبالحديث عن «سابك»، فإن خسائرها، العام الماضي، تجعلنا نفكر بأنه لا مأمن مع البتروكيماويات وحدها لتنويع الاقتصاد، خصوصاً أن الصين تبني العديد من معامل البتروكيماويات، وهو ما سيزيد العرض، ويضغط على الأسعار، ويقلل الطلب عليها من خارج آسيا.

أما أوروبا فهي قصة حزينة، ولا مستقبل للقطاع هناك، رغم وجود شركات كبرى أوروبية مثل «باسف» الألمانية، في حين تكتفي أميركا بإنتاجها، خصوصاً أن لديها الغاز الصخري الذي يجعل تكلفة إنتاج البتروكيماويات منخفضة.

وعندما نذكر «سابك» والبتروكيماويات، لا بد لنا أن نتحدث عن الكفاءات الذين خرجوا من رحم القطاع.

آخِرهم مطلق المريشد، الرئيس التنفيذي لشركة التصنيع، والذي كان سابقاً نائب الرئيس للمالية في «سابك» لسنوات، والذي أعلنت التصنيع استقالته من منصبه، الأسبوع الماضي.

لم تكن استقالة المريشد مفاجئة لأحد؛ لأنها جاءت بعد خلاف علنيّ بينه وبين مجلس الإدارة؛ على خلفية تصريحاته في الإعلام عن ارتفاع تكلفة اللقيم وتأثيرها على الشركة، والذي عدَّه المجلس رأيه الشخصي ولا يمثل الشركة.

قد لا يكون هذا هو سبب استقالة المريشد، ولكن قد يكون أحد الأسباب أو بداية الشرارة بينه وبين المجلس.

معرفتي بالمريشد محدودة جداً، وكلها في إطار اللقيم. بدايتها كانت قبل 14 عاماً، سألته حينها ونحن في الظهران عن توجه الحكومة السعودية لرفع سعر اللقيم، ومدى احتمالية هذا الأمر، وأتذكر أنني نشرت كلامه أو توقعاته عن ذلك، ثم غضب مني لأنني نشرت دون أن أستأذنه، لكن الرصاصة كانت قد انطلقت للأسف.

وبعدها بعام أو عامين، حضرت له لقاء مع موظفي «سابك» في الجبيل، وكان يتحدث بشفافية ويرد على كل تساؤلات زملاؤه؛ لأنه كان لا يدري أن هناك إعلامياً اندسّ بينهم، ولكنني، هذه المرة، لم أنشر شيئاً مما قاله، بل احتفظت به في ذاكرتي.

سألوه حينها عن رأيه في صفقة شراء «سابك» ذراع البلاستيك من «جنرال إليكتريك»، خاصة أن قيمتها عالية، وكثير من المنتقدين يعتقدون أن «سابك» تعرضت للخداع في هذه الصفقة ودفعت سعراً مُبالغاً فيه.

كان رد المريشد حينها أن «سابك» اكتسبت العديد من قدرات البحث والتطوير وبراءات الاختراع من وراء الصفقة، وهي مكتسبات لا ينظر المحللون الماليون لها.

وأتذكر أنه تكلم بفخر عن الصفقة، وكيف أنها ساهمت في وضع «سابك» على الصفحة الأولى لـ«وول ستريت جورنال»، وهو أمر صعب في ذلك الوقت عندما كانت الصفحة الأولى في الصحافة الورقية تعني الكثير.

ما يعجبني في المريشد ويميزه، في نظري، عن غيره هو أنه يتحدث بشجاعة، ويعبر عن رأيه بلا تردد. ولا يزال المريشد بلهجته التي تغلب عليها البداوة أحد كفاءات قطاع البتروكيماويات، هذا القطاع الذي كان مدرسة لسنوات طويلة خرّجت الكثير من المسؤولين في الدولة، آخِرهم وزير التعليم الجديد يوسف البنيان، القادم من «سابك».

ما يزعجني هو أنني في كل مرة أسمع فيها نقاشاً عن قطاع البتروكيماويات، أجد أن الكثير من «أرامكو» أو من الحكومة يتكلمون عنه أنه قطاع مدلَّل يعيش على الدعم واللقيم الرخيص، وكفاءته شِبه معدومة.

وتولَّد بسبب هذا حالة من النظرة الدونية له والعدائية تجاهه.

وفي أحد المؤتمرات قبل 12 عاماً في ينبع، حضرت بنفسي كيف أن أحد كبار المسؤولين الحكوميين انتقد رئيس التصنيع السابق حينها، في العلن، أثناء جلسته الحوارية، وقال له إنكم يا مُصنّعي البتروكيماويات لم تقدموا شيئاً للدولة مقابل اللقيم الرخيص، سواء أكان توظيفاً للشباب أم غيره، وكل ما تفكرون فيه هو تعظيم الفائدة للمساهمين.

هذا الأمر قد يقودنا لنقاش آخر مستقبلاً حول مسؤولية الشركات، أهي لتعظيم أرباح المساهمين أم التوظيف والواجبات الاجتماعية.

في النهاية، قطاع البتروكيماويات سيظل ويستمر إلى ما شاء الله، لكنه وصل للنضج، ولن ينمو كما نما قبل 50 عاماً بصورة مطّردة، وسيظل رافداً للاقتصاد، ولكن لا أعتقد أن دوره في المستقبل سيظل مثل دوره، اليوم، نتيجة التحديات العالمية التي تحيط بالقطاع.

ولا بد أن نتوجه بالفضل في الختام لكل الشخصيات التي كانت خلف نشأة هذا القطاع ممن رحلوا عنا، مثل الملك خالد بن عبد العزيز، والملك فهد بن عبد العزيز، والوزير غازي القصيبي، والوزير هشام ناظر، وغيرهم الكثير من رموز الدولة الذين خططوا لمستقبله، وكذلك للأسر التي ساهمت واستثمرت لبناء هذا القطاع؛ من أمثال أسرة الزامل وغيرها.