في هذه الأيام انتكست مفاهيم الرجولة، وأصبح الشباب يشعرون بمتعة الإنجاز، لمجرد انتصارهم في لعبة فيديو، وبطريقة تتقاطع مع إنجازات الإنسان القديم، عندما يصطاد أو يزرع أو يكسب معركة، والمخاطرة الرقمية عطلت الميل الفطري عند الناس لتجربة الواقع، والتعرف على ما يحمله من مفاجآت وتحديات، وحصرت مساحاته في الأماكن المغلقة، وضمن حدود محمية، أو على شاشات صغيرة، وهو ما يفسر استمرار مرحلة المراهقة في الحياة الحديثة، من سن الثامنة عشرة إلى الثلاثين عاماً، ولا بد من الانتباه إلى أن انشغال الأطفال بالعوالم الرقمية، يمثل تهديداً كبيراً عليهم، وقد يؤخر وصولهم إلى النضج العاطفي، ويجعلهم أقل قدرة على تحمل المسؤوليات المختلفة، ويعملق الطفل الموجود في دواخلهم إلى سن متقدمة.
من المؤشرات الموجودة في المملكة ودول الخليج، والتي تفيد بوجود الرجل الطفل، ارتفاع حالات الطلاق، وانتشار القيمرز، ومن يفضلون المتع الحسية على الدخول في صعوبات حياتية، وعلى طريقة بيتربان في رواية الكاتب الأسكتلندي جيمس باري، التي حملت عنوان (بيتربان وويندي)، وصدرت عام 1904، ومن ثم قدمت ديزني نسخة كرتونية من الرواية في 1953، وفي عام 1983 لاحظ عالم النفس الأميركي دان كيلي وجود اضطراب الشخصية الاعتمادية بين الشباب، وتكلم عنها في كتاب أسماه: متلازمة بيتربان، وقد كان من أكثر الكتب مبيعا في وقته، ووزع أكثر من 20 مليون نسخة، وترجم لقرابة عشرين لغة، والحالة لم تشخص كمرض عقلي، ولكنها تبقى في دائرة المرض النفسي، لأن بيتربان شخص اتكالي لا يلتزم ولا يمكن الاعتماد عليه، وهو يحتاج باستمرار إلى ويندي دارلينغ، التي تذهب مع إلى نيفرلاند وتتحمل مسؤولياته، وإلى الجنية تينكر بيل، وبيتر قد يكون امرأة كما أن ويندي يحتمل أن تأتي في شخصية رجل والعكس صحيح، ولو أن المتلازمة أكثر انتشارا بين الرجال، والشخصيتان الصبيانية والناضجة هما الأنسب لبعضهما باستمرار، ولا يعني هذا أن العلاقة بينهما صحية أو مقبولة اجتماعياً.
الفكرة نفسها تؤكد عليها أبحاث كثيرة، فالشاب في السابق كان يعمل في سن 18 عاماً، ويتزوج ويكون عائلة ويتحمل أعباءها كاملة في سن 21 عاماً، ما يعني أن المسألة ليست موقوفة على النضج الجسدي والعضوي، وفي المملكة نجد تفوق أبناء البادية على نظرائهم في المدينة، وقدرتهم على تحمل الالتزامات المختلفة، وبعض العوائل في الخليج وفي أوروبا، تحرص على تعليم أبنائها الفروسية والصيد بالصقور واستعمال الأسلحة، لإبقاء الرابطة قائمة بينهم وبين عاداتهم القديمة، وتعويدهم على المخاطرة الحرة في أعمار صغيرة، وتكليفهم بالمهام الجسام، مثلما فعل الملك عبدالعزيز مع الملك فيصل، وما سبق وثق بعضه في فيلم: "ولد ملكاً".
الرجال تراجعت رجولتهم بشكل ملحوظ، في الوقت الحالي، فهناك 87 رجلا في كل 100 يقومون بالانتحار، والبقية نساء، ما يشير إلى هشاشة رجال الألفية الثالثة، وعدم قدرتهم على الثبات والتوازن أمام الضغوط والصدمات، وبعض الدراسات تكلمت عن الذكورة السامة، أو الصفات التي يتوقع المجتمع وجودها في الرجال، ولكنها تؤذيهم، ومن أبرزها، كتمان المشاعر والعقلانية المفرطة، والجمعية الأميركية لعلم النفس ربطت الرجولة التقليدية بالعدوانية، وبالرجل الدمية أو من يتحرك وفق توقعات الآخرين، ومن المسلسلات التي تناولت ذلك (ذا سوبرانوس) الذي اعتبرته نقابة الكتاب الأميركيين أفضل مسلسل تلفزيوني في موضوعه، والأنسب، في رأيي، هو التعامل مع الإخفاقات وكأنها جزء من معادلة النجاح المتوقعة، وأن أصحابها ضحايا للتدليل والحماية المبالغ فيها في طفولتهم.
الرجولة ليس شراً مطلقاً ولا خيراً خالصاً، إلا أنها تعتبر فضيلة في بعض الأحيان، لأن اتخاذ القرار السليم، والقيام بالتصرف المناسب، قد يحتاج من الشخص إلى تحييد مشاعره والتصرف بصرامة، ولكن التحول الكبير في شكل العلاقات، مع بداية عصر الشركات في أميركا، بحسب المختصين، أوجد ما يعرف بالرأسمالية العاطفية، التي تلزم الناس بصياغة خطاب عقلاني لمشاعرهم، ولدرجة أن الإصدارات الجديدة في علم الإدارة، تؤكد على أصحاب الأعمال الرجال، ضرورة التنازل عن صورة الذكورة التقليدية، واكتساب مهارات أنثوية مرنة، كالاهتمام بالعاطفة والتحكم في الغضب والتعاطف مع الآخرين.
الأعجب أن الرجولة في التراث العربي قد تأتي في مقام الذم، وقد جاء في الحديث النبوي الصحيح "لعن المترجلات من النساء"، والمسألة يختلط فيها البيولوجي بالأخلاقي، وقال الأصفهاني إن الرجل مختص بالذكر من الناس، ولم أفهم لماذا يرفض الفكر النسوي ثنائية الجنس، ويسوقون لمفهوم النوع الاجتماعي، ولوجود فروقات بين الرجل والذكر وهما لا يختلفان، والأصعب هو اعتقادهم أن الذكورة والأنوثة، ليست إلا منتجا تاريخيا وثقافيا يتشكل في الأذهان، وكأنهم يلمحون لوجود أنواع إضافية خارج دائرة الجنسين، وهذه الفانتازيا غير موجودة إلا في عقول أصحابها، ومحاولة تطبيعها مجرد خدعة، ولا يتم تصديقها إلا من باب المجاملة.
التعليقات