ماذا يحدث بين فرنسا وألمانيا وبولندا؟ زعماء البلدان الثلاثة عقدوا قمّة في برلين، وقيل إنّ الهدف منها ازالة الخلافات التي برزت في الفترة الأخيرة بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس ورئيس الوزراء البولندي دونالد توسك حول طريقة التعاطي مع الحرب في أوكرانيا التي دخلت عامها الثالث.

يدعو ماكرون إلى تعزيز الدعم الأوروبي لأوكرانيا لمنع روسيا من الانتصار. نبرة تشبه إلى حدّ بعيد اللغة التي يتبنّاها الرئيس الأميركي جو بايدن. وبلغ الأمر بالزعيم الفرنسي حدّ عدم استبعاد إرسال جنود فرنسيين أو من دول أخرى في حلف شمال الأطلسي إلى أوكرانيا إذا استلزم الأمر. دعوة لم تلقَ ترحيباً، لا في برلين ولا بولندا. واعتبر شولتس أنّ إرسال قوات ألمانية إلى أوكرانيا يعني انخراطاً ألمانياً في الحرب، وهذا خط أحمر بالنسبة إلى الائتلاف الحاكم في برلين.

لم يقتصر الأمر على ذلك، بل أنّ ماكرون أخذ على برلين التلكؤ في ارسال صواريخ بعيدة المدى من طراز "توروس" إلى أوكرانيا، علماً أنّ خطوة كهذه لا تلقى تأييداً لدى الرأي العام الألماني، إذ تُظهر استطلاعات الرأي أنّ نسبة 61 في المئة من الألمان تعارض هذه الخطوة.

أحدثت انتقادات ماكرون استياءً لدى شولتس الذي لم يستسغ الاندفاعة الفرنسية نحو زيادة المساعدات العسكرية بشكل جذري. ومعلوم أنّ ألمانيا تقدّم مساعدات لأوكرانيا أضعاف ما قدّمته فرنسا في العامين الأخيرين. لكن إدخال أسلحة ألمانية متطورة مثل صواريخ "توروس" في المعركة، يثير حساسية خاصة ويوقظ ذكريات عن الحرب العالمية الثانية بين روسيا وألمانيا. وتعتبر ألمانيا نفسها أنّها تقوم بواجبها على أكمل وجه مع كييف والتي من بينها تعهد بتقديم 17.7 مليار يورو كمساعدات عسكرية. كما أنّ ألمانيا تستضيف مليون لاجئ أوكراني على أراضيها.

وعليه، لا يرى شولتس أنّ ثمة مسوغاً لماكرون كي يوجّه الانتقادات إلى برلين في ما يتعلق بمساعدة أوكرانيا.

لكن قمّة برلين ربما حدّت من الخلافات الفرنسية- الألمانية، مع توجّه لدى الجانبين إلى استخدام فوائد الأموال الروسية المجمّدة في المصارف الأوروبية والبالغة 327 مليار دولار، لتمويل شراء أسلحة من أوروبا والعالم، لتزويد أوكرانيا بها.

أما بولندا، فتعرّضت لانتقادات من فرنسا وألمانيا، بسبب إقدام مزارعين بولنديين على منع شاحنات الحبوب الأوكرانية من الدخول إلى الأراضي البولندية. وتسبّب ذلك في توتر العلاقات البولندية- الأوكرانية. وتتهم برلين وباريس الحكومة البولندية في التباطؤ باتخاذ اجراءات للحدّ من احتجاجات المزارعين.

وكانت الحكومة البولندية السابقة برئاسة ماتيوس مورافيتسكي، قد أثارت حنق برلين بمطالبتها ألمانيا بدفع 1.3 تريليون يورو لبولندا تعويضات عمّا الحقته بها من دمار في الحرب العالمية الثانية.

وفي مرحلة أوروبية تتميز بعدم اليقين، يجري التعويل على محور باريس-برلين- وارسو الذي يُطلق عليه "مثلث فايمار"، من أجل تعبئة الموارد لدعم أوكرانيا في حربها ضدّ روسيا، والاستعداد لمرحلة قد يقوى فيها التيار الانعزالي الأميركي في حال عودة دونالد ترامب إلى السلطة.

ويسعى ماكرون منذ فترة إلى تنكّب دور قيادي في الدفع نحو حشد الطاقات الأوروبية في مواجهة روسيا. وتعتبر موسكو أنّ اللهجة العدائية التي يتحدث بها الرئيس الفرنسي عن روسيا، عائدة إلى ما عانته فرنسا من انحسار لنفوذها في دول الساحل الإفريقي في الأعوام الأخيرة، وتعزيز روسيا لعلاقاتها مع هذه الدول. أي أنّ الكرملين يصوّر الجهد الفرنسي في أوكرانيا، على أنّه محاولة انتقامية من روسيا بسبب الخسارات التي عانتها باريس في إفريقيا.

وبصرف النظر عن الدوافع التي تحدو بماكرون إلى الحشد ضدّ روسيا، فإنّ القارة الأوروبية بمجملها تتلمس طريقها نحو رسم معالم استراتيجية جديدة أمنياً وسياسياً بناءً على افرازات الحرب الروسية- الأوكرانية.