الأحساء إقليم عظيم من الأقاليم التي شكّلت خارطة المملكة العربية السعودية، وبانضمامها إلى الوحدة الوطنية الأصيلة والعريقة لشبه الجزيرة العربية اكتسبت تلك الوحدة ثقلاً سياسياً واقتصادياً وثقافياً، فالأحساء ليست واحة النخيل وأرض النفط والزراعة والصياغة والصناعة والغوص وصيد البحر فحسب، بل ومنارة العلم والفكر، واحة الشعراء والأدباء والعيون والنخيل، أرض الثقافة والأدب، وأيقونة التسامح والتعايش والتنوع المندمج اجتماعياً..
مواردنا الطبيعية نعمها عظيمة ومن أجلّ النعم وأعظم المنن، ولكن عمود اقتصادنا وهيكله وذروة سنامه ما هو أغلى من كل الثروات التي تكتنزها الأرض في باطنها وأعني شباب هذا الوطن وثروته التي لا تقدر بثمن، ولهذا رسمت رؤية 2030 ملامح حقبة ما بعد البترول، ودشنت أساسيات الاقتصاد السعودي بعد نضوب النفط، وسعت لتطوير قدرات المواطنين، وتحضيرهم للمستقبل، والملاحظة المهمة التي يجب الإشارة إليها، هي أن أحد أهم الأصول الاقتصادية لمستقبلنا يوجد في النصف الأيمن من أدمغتنا، حيث يوجد الخيال والإبداع، وهو جوهر اقتصاد المستقبل.
الاقتصاد الإبداعي في المملكة هو قطاع اقتصادي واعد، يشمل مجموعة واسعة من السلع والخدمات الثقافية والإبداعية، حيث تعد الصناعات الثقافية والإبداعية أصولاً اقتصادية لا حصر لها تعزز نمو الاقتصاد وتنمي وتستوعب المواهب وتخلق الوظائف، وتجعله على قدم المساواة مع الصناعة التحويلية في المستقبل، ومقومات هذا الاقتصاد عالية في الأحساء مما يدعم التنمية الاقتصادية المحلية والوطنية، ويساهم بمشاركة الخبرات والتاريخ الثقافي الغني والمكون البشري الثقافي المتعدد والمتنوع بصورة استثنائية بالمنطقة وبحضارة غنية والتي جعلت من الأحساء أرض الحضارات الاستثنائية، وأصبحت واحة خصبة لقدرات الشباب وللفرص والمشاريع الهائلة بفضل من الله، ثم بقيادة حكيمة، تحت ظل حكومة مولاي خادم الحرمين الشريفين وسمو سيدي ولي عهده - حفظهما الله وسدد خطاهما -، لرفع تنافسية الأحساء وجاذبيتها كوجهة مثالية للاستثمار والاستغلال الأمثل لمزاياها النسبية وقيمتها الاستثنائية في قطاعات رئيسة كالطاقة، والصناعة، والتعدين، والخدمات اللوجستية، وقطاع الصناعات الثقافية والإبداعية، والزراعة والتجارة، ومساحتها التي تعادل 20 ٪ من مساحة المملكة العربية السعودية، إضافة إلى كونها منفذاً لثلاث دول خليجية، لتساهم في تحقيق تحول المملكة لقوة صناعية رائدة ومحور لوجستي عالمي، ورفع تنافسيتها وجاذبيتها كوجهة مثالية للاستثمار.
وما اعتماد الأحساء مركزًا وطنيًا وإقليميًا للخدمات اللوجستية لتصبح ضمن خطة المملكة للتحول إلى مركز لوجستي عالمي. وفي ذلك دلالة قوية لنهضة تنموية شاملة ستشهدها الأحساء خلال المرحلة المقبلة، في ظل مقومات نجاح وفرص استثمارية هائلة بالمنطقة، وخاصة في ظل القرار الملكي بإنشاء هيئة تطوير الأحساء.
مسؤولية تحقيق هذه النهضة التنموية الشاملة تتقاسمها مؤسسات عديدة ولا تقتصر على جهة دون أخرى، ومن أهم هذه المؤسسات هي الجامعات، من المنطلق الأساسي لدور الجامعة حيث تعتبر المصنع الفكري للمجتمع وهي جزء لا يتجزأ من المجتمع ولا يجب أن يُنظر إليها كمؤسسة معتزلة عن محيطها ومجتمعها، خاصة أن الجامعات في مجتمعنا السعودي بيئة متوافقة تنظيمياً وثقافياً مع المجتمع، فاتصال الجامعات بالمجتمع وتقـديم مجموعـة مـن الأدوار والأنشطة والخدمات لهذا المجتمع أصبح أمرًا ضرورياً تفرضه متطلبات رؤية 2030 والمتغيرات التنموية المعاصرة، فلم يعد قيام الجامعـة بخدمة مجتمعها أمرًا اختيارياً كما في جامعات دول العالم الثالث.
وكون الثقافة الإنسانية تتلخص في أي مؤسسة اجتماعية في التركيز على دمج الأدوار بالمـشاعر بحيـث يشعر الفرد داخل الجماعة بأنه جزء لا يتجزأ من الكل وأن الكل لا يتجزأ منه، ومن الواضح أن إيجـاد هذا النوع من التثقيف في الجامعات في غاية الصعوبة لأنه يقوم على النظرة الإنسانية إلى الأفراد لا الآلية أو الوظيفية، ولذلك فإن خلق الجامعة لنفسها ثقافة إنسانية يعتبر من أهم التحديات التي ستواجه بعض الجامعات بصورتها النمطية، ومدى قدرتها على تحقيق التكامل في ثقافتها مع المجتمع على حساب النظرة إلى التعليم كنسق اجتماعي متفاعل مع البناء الكلي للمجتمع.
من أهم المسلمات التي تقوم عليها علاقة الجامعة بمجتمعها هي أن الجامعة لا تنفصل عن المجتمع، وأن علاقة الجامعة بالمجتمع هي علاقة الجزء بالكل، ومن ثم فإن غاية الجامعة الحقيقيـة ومـبرر وجودها هو خدمة المجتمع الذي توجد فيه. ومعنى ذلك أن ارتباط الجامعة بمجتمعها يعطيها شـرعيتها ويبرر وجودها، حيث إنه ليس أخطر على الجامعة من أن تنفصل عن مجتمعها وتنحصر داخل جدران تنقل المعرفة فقط دون ارتباط وثيق بالمجتمع.
قبل بضعة أعوام وإبان رحلتي لاستكمال برنامج الدكتوراه في العاصمة الأمريكية واشنطن حينما توجه بي السائق إلى مقر جامعة جورج تاون في قلب الحي العريق جورج تاون لأول مرة، فاعترتني الدهشة حينما توقفت السيارة فجأة أمام مبانٍ بلا أسوار وقال لي تفضلي لقد وصلنا! وعرفت أن الجامعة فضلاً عن أنها بلا أسوار تعزلها عن محيطها كذلك أبوابها مفتوحة لجميع أفراد المجتمع حتى مساء! فكتبت حينها مقالي المعنون "جامعة بلا أسوار"! وظلت الفكرة هاجساً يحدوني به الأمل أن أرى ذلك الواقع ماثلاً لدى كل جامعاتنا.
واليوم أحسنت جامعة الملك فيصل بتطبيق تلك الفكرة والمبادرة من خلال رئيسها المكلف سعادة الدكتور مهنا الدلامي وتحقيق مفهوم جامعة بلا أسوار في معرض مجتمعي كبير معنون بـ"ليالي كفو الرمضانية" وتهدف الجامعة من خلال هذا المهرجان الرمضاني، إلى تعزيز أواصر الترابط والتلاحم بين منسوبي جامعة الملك فيصل من جهة والمجتمع المحيط بهم، وتحفيزهم للمشاركة في الأعمال الخيرية والتطوعية، إضافةً إلى إحياء تجارب قيمة بين الماضي والحاضر خلال شهر رمضان المبارك، وتتيح الفرصة لمجتمع الجامعة من الطلبة والموظفين لعرض منتجاتهم الابتكارية والإبداعية ومهاراتهم في مختلف المجالات، وتوفير فضاءات للتواصل والتفاعل بين الزوار من كافة شرائح المجتمع بلا استثناء ودون أي رسوم مالية مقابل ذلك.
أين هي الأحساء اليوم؟! هي في قلب كل مواطن محب لهذا الوطن، بفضل العناية التي أولتها قيادة هذا البلد المعطاء وجعلت لكل منطقة في بلادي ما يناسبها من خطط التنمية والتطوير، فالأحساء ليست واحة النخيل وأرض النفط والزراعة والصياغة والصناعة والغوص وصيد البحر فحسب، بل منارة العلم والفكر، واحة الشعراء والأدباء والعيون والنخيل، أرض الثقافة والأدب، وأيقونة التسامح والتعايش والتنوع المندمج اجتماعياً، وهي أم ولود للعقول المبدعة والأفكار المبتكرة، وهي وجهة اقتصاد واستثمار للمستقبل لذلك وغيره كانت الخطط المرسومة لتنميتها من ولاة الأمر تناسب استثنائيتها.
التعليقات