ليس صحيحاً أن دول العالم الأول تؤثر في دول العالم الثالث، ولا تتأثر بها، تُصدّر إليها ولا تستورد منها، «الأول» يأخذ من «الثالث» ما يريد، ووقتما يريد، ويفرض عليه ما يريد ووقتما يريد، وهو ما يظهر جلياً في القيم والسلوكات، الأول يأخذ بإرادته، والثالث يأخذ رغماً عنه، بل إن العالم الأول يستخدم كل الأساليب، المشروعة وغير المشروعة، لنشر قيمه عالمياً، ولو استدعى الأمر حرباً فلا مانع، المهم أن تسود القيم الغربية، وأن تأخذ مصطلحات العالم الأول مكانها في لغة الخطاب العالمي، وبالمعاني المقصودة.
هذا لا ينفي أن الغرب لم يأخذ من دول العالم الثالث فقط، ولكنه أخذ من الدول القمعية، استورد منها أسلوب التعامل مع التظاهرات الاحتجاجية، مشاهد قمع التظاهرات في شوارع المدن الأمريكية والعواصم الأوروبية مراراً خلال السنوات الماضية. شاهدنا الإعلام الغربي موجهاً كما كان الإعلام في ستينات القرن الماضي في الدول الشمولية، لا يعرض سوى وجهة نظر واحدة تتبناها الدولة، ويؤمن بها الممول، ويصل الأمر إلى تزييف الحقائق في بعض المحطات، وهو ما لمسه العالم من متابعات الحرب الغربية الروسية في أوكرانيا، والحرب الاسرائيلية على غزة، وكلتاهما مدعومة من أمريكا والغرب، عسكرياً واقتصادياً وإعلامياً.
الولايات المتحدة أخذت من العالم الثالث أيضاً مصطلح «حمّام دم»، الذي استخدمه المرشح الرئاسي الأمريكي، دونالد ترامب، للتهديد بإغراق البلاد في حمام دم حال عدم فوزه في الانتخابات في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، بينه وبين غريمه الرئيس الحالي، جو بايدن. المصطلح أشعل حرباً سياسية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، حرب تأويلات وتفسيرات، يسعى خلالها الديمقراطيون والإعلام المؤيد لبايدن، استغلاله للتدليل على أن ترامب داعية عنف وفوضى، وحال فوزه سيكون أكبر مهدد لقيم الديمقراطية الأمريكية، ولقواعد الحكم التي أرساها الآباء المؤسسون في الدستور، وأن تهديده ينبئ بإمكانية إشعاله اقتتالاً داخلياً يعيد البلاد إلى زمن الحرب الأهلية.
الحزب الجمهوري في المقابل، وجد أن هذا التصريح أدخل ترامب دائرة الخطر، توحد خلفه مدافعاً، ومبرراً، ومؤكداً أن المصطلح تم اجتزاؤه في محاولة لاستغلاله سياسياً، والحقيقة أن ترامب كان يشرح وجهة نظره في ما يتعلق بصناعة السيارات في أمريكا بعد افتتاح الصين مصانع سيارات في المكسيك، مؤكداً أنها «ستخلق حمام دم اقتصادياً لهذه الصناعة والعاملين فيها». المصطلح اعتبره الديمقراطيون هدية مجانية يقدمها ترامب لخصمه بايدن، وأن استغلاله بشكل جيد يمكن أن يقلل من فرص ترامب في الفوز، ولذا، فإن المعركة المشتعلة حالياً بشأنه لن تنتهي إلا بانتهاء الانتخابات، وسيظل الديمقراطيون يذكّرون به الأمريكيين كلما سنحت الفرصة، وسيظل الإعلام الرافض عودة الرئيس السابق للبيت الأبيض يبني على هذا المصطلح للتدليل على عدم أهليته للموقع الرئاسي، وللتأكيد على إعادة انتخابه سيقود البلاد إلى التهلكة.
الجمهوريون جمّعهم المصطلح خلف ترامب، وأعادت الأزمة إلى الحزب بعضاً من تماسكه المفقود منذ إعلان ترامب ترشحه للانتخابات التمهيدية، ألقوا بخلافاتهم جانباً، واستعادوا ولاءهم للحزب، وبذلوا كل ما يستطيعون للتأكيد على أن كلام ترامب ليس سوى تحذير من كارثة اقتصادية كبرى أمام تجمع انتخابي حاشد من العاملين في قطاع صناعة السيارات في أوهايو، وحمام الدم سيكون لصناعة السيارات في حال عدم فرض تعريفات جمركية ضخمة على السيارات الصينية.
التلاسن بين المرشحين في أي انتخابات أمر طبيعي، ويصل أحياناً إلى حد الشتائم، والسب، والقذف، ووصف الخصم بأسوأ الصفات، وهو الأمر الذي لم يقصّر فيه ترامب، ولا بايدن، فترامب بطبعه حاد مع منافسيه، يستبيح لنفسه طعنهم بكل الأدوات الممكنة، وصف بايدن بالغباء، والفساد، والخرف، وعدو الدولة، وبايدن أيضاً استخدم الممكن للنيل من ترامب، وآخره وصفه بالنازية، ولكن هذه المرة اختلف الأمر، حيث اعتبر المحللون أن التجاوز ليس في حق الشخص المنافس، ولكنه تجاوز في حق الدولة ذاتها، وهو ما يمكن استغلاله لتوضيح مدى خطورته على الدولة، وعلى السلم الوطني والاستقرار السياسي حال فوزه، واستغل أعداء ترامب موقفه من اقتحام الكابيتول في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول. ووعوده بالإفراج عن سجناء الاقتحام للتأكيد على روايتهم المحذرة من عواقب التصويت له في الانتخابات.
بايدن وترامب، وجهان لعملة واحدة، الأول متشبث بالسلطة رغم زلّاته اللسانية المتكررة، والتي تسبب إحراجاً للإدارة الأمريكية، وتنال من صورة الدولة الفتية القوية المصرة على قيادة العالم، والثاني نهِم لاستعادة مكانته والانتقام من الهزيمة التي مُني بها في 2020 والانتقام ممّن أعدوا له قائمة من الاتهامات وجعلوه يتنقل بين المحاكم في أكثر من ولاية، هو لا يريد الانتقام من بايدن وحده، ولكن من كل رموز إدارته ورموز الحزب الديمقراطي.
الانتخابات المقبلة ستكون فاصلة في المسيرة الأمريكية، ستكون بعدها أمريكا غير أمريكا الماضي والحاضر، ولعل حمام دم ترامب بداية الطريق لاعتناقها أنماط حكم العالم الثالث، بعد أن أخذت منه طواعية مصطلحاته وسلوكاته في التعامل مع المعارضين لبعض قرارات إدارتها، ولا غرابة في ذلك، خصوصاً أن من وصفها بأنها أصبحت دولة من العالم الثالث هو ترامب الساعي لاستعادة البيت الأبيض.
التعليقات