لم يحقق سفراء "الخماسية" خلال جولاتهم على القوى السياسية في لبنان أي خرق يمكن البناء عليه في الشأن الرئاسي أو على الأقل فصل مسار الاستحقاقات اللبنانية عما يجري من مواجهات بين "حزب الله" وإسرائيل على جبهة الجنوب. وسريعاً قرر السفراء مجتمعين إرجاء لقاءاتهم إلى ما بعد عيد الفطر، من دون أن يتضح ما إذا كانوا يراهنون على تطورات قد تحدث في الفترة الفاصلة حول هدنة غزة أم أن الأوضاع ستتدحرج نحو مواجهة أكبر في رفح تنعكس على جبهة الجنوب وعلى لبنان عامة.
في الأساس جاء تحرك "الخماسية" على مستوى السفراء بعد تراجع وساطة المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين حول التهدئة والتفاوض حول القرار 1701 وزيارته الأخيرة لبيروت وتل أبيب، وهو أثار أيضاً ملف الاستحقاق الرئاسي كون أي تقدم في المفاوضات وصولاً إلى ترسيم الحدود يحتاج إلى توقيع رئيس الجمهورية، علماً أن هوكشتاين لم يجب عن التساؤلات اللبنانية التي حملها إلى إسرائيل وتتعلق بتنفيذ القرار الدولي.
يتبين أن فصل مساري استحقاق الرئاسة والوضع في الجنوب بات صعباً أو مستحيلاً تماماً كما المحاولة الأميركية لفصل جبهة الجنوب عن غزة. وفي الحالتين رفض "حزب الله" وقف العمليات على الحدود قبل وقف النار والهدنة في غزة، مستمراً بريط لبنان بمسار القطاع من دون أن يعني ذلك التصعيد بحرب مفتوحة، وهو ما يعني أيضاً الربط بين الاستحقاقات اللبنانية الداخلية والمواجهات في الجنوب. ولذا لم يكن ممكناً فصل تحرك سفراء الخماسية عن مسار التطورات المحيطة بلبنان، وإن كانت الوجهة هي السعي إلى فصلها استباقاً لأي حرب محتملة قد تنفجر وتنعكس على الوضع اللبناني كله.
عجز "الخماسية" عن إحداث خرق في الوضع اللبناني يعود في شكل رئيسي إلى أنها لا تملك مجتمعة قوة ضغط موحدة قادرة وروافع جديدة للدفع نحو إنجاز الاستحقاقات، ذلك أن التصورات المتداولة حول الملفات الخلافية، لم تغيّر من الاصطفافات القائمة في ظل المواجهات على الحدود بين "حزب الله" وإسرائيل، وانسداد الأفق حول مكان تهدئة الجبهة والفصل بين لبنان وغزة. وعلى هذا دارت حركة السفراء في حلقة مفرغة، إذ إن مبادرتهم مقيّدة بالملفات الإقليمية، خصوصاً الحرب في غزة وتأثيراتها على المنطقة، وسط انحسار حركة الموفدين الدوليين، والحديث عن إرجاء المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان زيارته المفترضة للبنان. علماً أن المبادرة الفرنسية المرتبطة بلودريان قد تعطلت بعد الرد اللبناني على الورقة الفرنسية حول تسوية الحدود مع إسرائيل وإعادة الهدوء إلى الجنوب، وشعور الفرنسيين بتجاهل لبنان لدورهم بعد التأخر في الرد، وبروز أصوات تعتبر أن الورقة منحازة إلى الاحتلال الإسرائيلي، خصوصاً بعد إعلان "حزب الله" رفضه لها.
عجز الخماسية يعود إلى حسابات متضاربة وخلافات. فالقوى السياسية في لبنان تنتظر ما ستؤول إليه أوضاع جبهة الجنوب ونتائجها، وما إذا كانت ستنزلق الامور نحو حرب مفتوحة، وما قد ترتبه من توازنات جديدة تنعكس على استحقاق الرئاسة والسلطة. فقد بات واضحاً أن هناك رهانات لدى "حزب الله" على تجيير قوته وفرض ما يريده رئاسياً وسياسياً، تحت عنوان أن معركته ضد إسرائيل هي لحماية لبنان، وبالتالي يستمر بالتمسك بمرشحه للرئاسة. فيما بعض القوى على المقلب الآخر المعارض لـ"حزب الله" يراهن على ضغوط دولية تدفع الحزب الى التنازل وتغيّر في التوازنات القائمة، ما يسمح بإنجاز الاستحقاقات من دون فرض شروط بالسلاح.
يتبين وفق المعطيات أن لا قدرة لمسار الخماسية على إحداث خروق جدية، وهو ما يزيد من عمق الأزمة اللبنانية، خصوصاً بعد توقف وساطة المبعوث الاميركي آموس هوكشتاين، وذلك وسط حديث عن خلاف فرنسي- أميركي حول الملفات اللبنانية، وهو ما ينعكس حتماً على الأولويات لدى دول الخماسية. وقد ظهر أن الرهان اللبناني يتركز على الوساطة الأميركية التي يتولاها هوكشتاين، وسط اقتناع بأن لا قدرة لأحد غير الأميركيين على التهدئة والدفع بتسوية في الجنوب تنعكس على الاستحقاقات عامة.
الأمر مرتبط لبنانياً ارتباطاً رئيسياً بـ"حزب الله"، وهي نقطة أساسية تحاصر أي تقدم في المشاروات لإنتاج تسوية جديدة أو أقله التفاهم على تصورات سياسية لإخراج لبنان من أزمته، ومواجهة أي تدهور للأوضاع الجنوبية بحرب إسرائيلية واسعة أو بعمليات تدميرية تستمر في استنزاف لبنان. وتظهر المشكلة أن الحزب غير مستعد للبحث في التسوية قبل وقف إطلاق النار في غزة أو الهدنة، وبالتالي يربط أي تقدم في الاستحقاقات الداخلية بالتطورات على جبهة الجنوب، وذلك على الرغم من إعلانه أنه لا يسعى إلى حرب واسعة وحصر معركته في إسناد غزة.
الوصول إلى بلورة مسار سياسي واضح للتسوية الداخلية اللبنانية لا يزال بعيداً، وسط استمرار الخطر من احتمال توسع الحرب الإسرائيلية، مع إبلاغ بنيامين نتنياهو وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بقرار اجتياح رفح واحتمال توسعها في لبنان. فيما "حزب الله" يتعامل مع الأمر وكأنه يمكن إذا توقفت الحرب في غزة، العودة إلى المعادلات السابقة، ولهذا السبب يعتبر أن التهديدات الإسرائيلية هي مجرد تهويل، وأن المقاومة قادرة على إلحاق الهزيمة بالاحتلال. فيستمر بربط جبهة الجنوب بغزة، ويرفض الاتفاق جنوباً، مستسهلاً أنه يمكن العودة إلى المرحلة السابقة، فيما إسرائيل تكسر قواعد الاشتباك وتدمر قرى الجنوب.
لقد بات واضحاً أن الاستحقاقات اللبنانية من الملف الرئاسي إلى إعادة تشكيل السلطة مؤجلة كلها إلى ما بعد الحرب على غزة. وعلى الرغم من انشغال الأميركيين بالانتخابات الرئاسية المقررة في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، يبقى الرهان على دور أميركي ضاغط على إسرائيل لمنعها من توسيع الحرب على لبنان، خصوصاً إذا بدأت باجتياح رفح. ففي وقت لا تمارس الإدارة الاميركية ضغوطاً كافية لوقف الحرب على غزة، طالما أنها مستمرة بمساعداتها لإسرائيل، إلا أنها تدير في المقابل مفاوضات غير مباشرة مع إيران وترفض في الوقت نفسه إعطاء "حزب الله" دوراً يمكنه من التحكم بالمسار اللبناني كله أو إظهاره منتصراً حتى وإن تعهد بتسهيل تسوية الحدود.
وعلى الرغم من أن "حزب الله" يؤكد أن جبهة جنوب لبنان ستبقى مساندة لغزة، وأنه لا يريد توسيع الحرب، إلا أن لبنان بات ساحة مفتوحة وغرفة عمليات لمحور المقاومة وقاعدة انطلاق برعاية إيرانية لكل جبهات المنطقة، خصوصاً بعد الاجتماع الذي عقده "حزب الله" في بيروت مع الحوثيين وحماس والجهاد الإسلامي، واللقاء الذي جرى الحديث عنه بين الأمين العام حسن نصر الله وقائد فيلق القدس إسماعيل قآني، وهو ما يؤشر إلى احتمالات أن تتوسع المواجهات إذا ما اجتاحت إسرائيل رفح، أو قررت توسيع الحرب على لبنان. ومع استمرار الانسداد أمام فتح نافذة للتفاوض على ترتيبات في الجنوب يكمن الخطر بأن تنزلق الامور إلى مزيد من العمليات والفوضى وإبقاء لبنان في حالة استنزاف مديدة لا يستطيع تحملها، فيما يُقفل النقاش حول أفق المعركة في الجنوب وطريقة إدارتها. وما يحدث الآن لا يبشر في إمكان الخروج من المأزق الذي بات لبنان معه أسيراً لوحدة الساحات ولما يحدث على أرض غزة.
Twitter: @ihaidar62
التعليقات