بعد ما يقرب من مرور سبعة شهور على اندلاع حرب غزة التي خلّفت عشرات الآلاف من القتلى وأضعافهم من الجرحى، وتدمير شبه كامل لقطاع غزة، لا تزال إسرائيل تواصل نهجها العدائي وكأن شهية وزراء الحرب لا تزال مفتوحة لقتل وسفك المزيد من الدماء، ومن الصعب تصور أن ما قامت به إسرائيل من جرائم إبادة كان بسبب اختطاف العشرات من الأسرى الإسرائيليين، ذلك أن رغبة الحكومة الإسرائيلية في تحرير عشرات من الأسرى من مواطنيها لا يمكن -بأي حال- أن يبرر قيامها بقتل أكثر من أربعة وثلاثين ألف فلسطيني والتسبب في جرح أضعافهم، وتظل قائمة أعداد القتلى مفتوحة؛ فيوم بعد يوم يتم اكتشاف العديد من المقابر الجماعية داخل القطاع عقب انسحاب الجيش الإسرائيلي من بعض مناطقه.
المتتبع لآلية إدارة تلك الحرب يجد أن الحكومة الدموية في إسرائيل لا تفرق بين إسرائيلي وفلسطيني أو حتى حاملي أي جنسية غربية، فقد ثبت تورط الجيش الإسرائيلي في قتل العديد من الأسرى، بخلاف قتله العديد من العاملين في منظمات الإغاثة الدولية من جنسيات مختلفة، ومن الصعب تصديق تصريحات الجيش الإسرائيلي بأن من تم قتلهم تم نتيجة لارتكاب خطأ عسكري؛ فالأخطاء العسكرية لا تُمارس على نحو ممنهج كما يحدث الآن في القطاع.
لا ترغب آلة القتل الإسرائيلية في حصد حياة كل فلسطيني فحسب، بل تعمد لقتل كل من يقدم لهم الإعانة ليبقيهم على قيد الحياة، أما ما أثار الاشمئزاز دولياً هو سماح إسرائيل لبعض ساكني القطاع للعودة لديارهم ليفاجأوا بالدمار الشامل الذي حلَّ بكل شيء بدءاً من المنازل السكنية وانتهاءً بالبنى التحتية للمرافق الحيوية كالمدارس والمستشفيات، فالحكومة الإسرائيلية التي عجزت عن تهجير سكان القطاع للدول المجاورة تتبع سياسة الأرض المحروقة، التي قد تمكنها من الاستفادة من هذه الأوضاع لاحقاً.
ما تقوم به إسرائيل في غزة هو وصمة عار، ولكنها ليست في جبين قادة إسرائيل فحسب، بل في جبين زعماء بعض الدول الغربية وعلى رأسهم الإدارة الأمريكية، التي قدمت لإسرائيل -منذ اليوم الأول للحرب- كافة أنواع الدعم السياسي والعسكري، وفي الوقت الذي تتباكى فيه على دماء الأبرياء من الأطفال الفلسطينيين تقدم في المقابل المنح المالية بسخاء للقيادة الإسرائيلية لتمكنها من مواصلة عدوانها.
من الوقاحة بمكان أن تعلن الولايات المتحدة عن خططها لإيقاف الحرب في غزة بشروط إسرائيلية، ومن غير المنطقي أن يتم التركيز على مطلب تحرير الأسرى مقابل السماح لسكان القطاع بالعودة إلى الخراب الذي حل بمدنهم، وكذلك السماح بدخول المساعدات الإنسانية، فإن كان هذان المطلبان هما المطالب الأساسية لوقف الحرب فلماذا اندلعت الحرب إذن من الأساس؟ ومن الواضح أن الولايات المتحدة وإسرائيل تريدان توفير الحد الأدنى من ضرورات الحياة للفلسطينيين لإبقائهم فقط على قيد الحياة، متجاهلة جذور القضية التي كانت سبباً في اندلاع الحرب، غير أنه من الأهمية بمكان أن نشير لأن هذه الحرب تمكنت من إعادة القضية الفلسطينية لمسرح السياسة الدولي، وأصبحت بعض الدول تعتقد أن التعويض الذي يستحقه الفلسطينيون بعد كل هذه الخسائر هو الاعتراف بحقوقهم المشروعة كدولة مستقلة ذات سيادة.
لا يمكن تصور أن تنتهي هذه الحرب بالعودة إلى المربع الأول من خلال عودة السكان النازحين إلى ديارهم والسماح بإدخال قوافل المساعدة لهم فقط، فمن المؤكد أن هذا ليس هو الثمن الذي دفع من أجله آلاف الفلسطينيين حياتهم ودماءهم، فهناك دول مستقلة ذات سيادة في الأمم المتحدة رغم أنها أصغر مساحة من الأراضي الفلسطينية وأقل تعداداً سكانياً منها، وقد آن الأوان لتتحرك وتتكاثف الجهود من أجل الاعتراف بدولة فلسطين وقبول عضويتها في الأمم المتحدة شاءت إسرائيل أم أبت.
تابعنا مؤخراً الجهود الدبلوماسية لبعض الدول (كإسبانيا التي بدأت في التنسيق مع دول أخرى) لحشد تأييد دولي للاعتراف بعضوية كاملة لفلسطين في منظمة الأمم المتحدة، وبطبيعة الحال تحاول إسرائيل إجهاض هذه المساعي بدعوى الانقسام الفلسطيني الداخلي بين السلطة في قطاع غزة وبين حماس في غزة، غير أنه بعيداً عن هذه الحجج فإن الاعتراف بدولة فلسطين سيمثّل الصفعة الأهم لإسرائيل وهزيمتها الحقيقية في الميدانين العسكري والسياسي أيضاً.
التعليقات