في 6 أيار (مايو) 2023، يكون تشارلز الثالث (75 عاماً) قد أكمل نحو عامين على العرش البريطاني الذي تربع عليه فور رحيل والدته في أيلول (سبتمبر) 2022 وانتظر 8 أشهر لتنصيبه رسمياً ملكاً على بريطانيا. مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى للتنصيب، عاد قبل أيام إلى حياته المعتادة بعد معركة قصيرة مع السرطان أجبرته على الابتعاد عن مكتبه قرابة ثلاثة أشهر. إلا أنه استمر في متابعة شؤون البلاد عن كثب.
فقد تعلم من والدته أن الواجب مقدس. هي نذرت نفسها في عيد ميلادها الحادي والعشرين للقيام بواجبها قائلة: "أعلن أمامكم جميعاً أن حياتي كلها إن كانت طويلة أو قصيرة ستكون مكرسة لخدمتكم". وبقيت على رأس عملها وهي على فراش الموت، إذ عينت ليز تراس رئيسة للوزراء، قبل أن تغمض عينيها إغماضتهما الأخيرة بساعات عن 96 عاماً.
وفي رثائه الأول لها، حيّا نجاحها في الجمع بين "الحب الدائم للتقاليد (...) إلى جانب ذلك الاحتضان الجسور للتقدم". ويجسد هو هذه الثنائية من خلال الوفاء للماضي، والاستشراف المتبصر للمستقبل. "التقدم" يعني لديه التغيير التدريجي وفق وتيرة مضبوطة، وليس إحداث "ثورة" على الإرث الذي ساهم في صناعته كوليّ للعهد طيلة أكثر من نصف قرن. وهو وفيّ لوالدته يسير على خطاها وإن أسرع قليلاً.
لمس العالم في حفلة التنصيب نفسها التجديد الواعي يتعانق مع الاستمرارية. ففيما جلس الملك على كرسي يعود إلى 700 عام، وتتابعت من حوله مراسيم عمرها قرون عدة، كانت هناك عناصر جديدة في طليعتها مشاركة ممثلين عن المسلمين واليهود والهندوس والسيخ البوذيين البريطانيين في الإجراءات التي كانت في الماضي حصراً على الكنيسة الأنغليكانية الرسمية التي صار تشارلز الثالث رئيساً لها.
وقد عدّل في دوره أيضاً. كان منذ ثمانينات القرن الماضي أميراً "متمرداً" يتبنى مجموعة من المواقف، وعلى نحو لم يعهده الشعب من العائلة المالكة. البيئة والزراعة العضوية، والعمارة التقليدية، والأديان، ولا سيما الإسلام والمسيحية الأرثوذكسية، كانت كلها قريبة إلى قلبه. وهو واسع الثقافة. كان أول ولي للعهد في تاريخ بريطانيا يحمل شهادة جامعية، إذ درس الأنثروبولوجيا وعلم الآثار والتاريخ في كامبريدج.
غير أنه أكد منذ حلوله محل والدته أن دوره الجديد لم يعد يسمح له بخدمة تلك القضايا، بالطريقة نفسها. هكذا اتضح أنه لن يقلب القصر الملكي رأساً على عقب، كما توقع البعض. وراح يجري تغييرات تدريجية من دون تطبيل وتزمير.
درجت العادة في القصر على التكتم المطلق حول صحة أبناء العائلة المالكة. لذا كانت والدته تلفظ أنفاسها الأخيرة، فيما قالت البيانات الصادرة عن القصر إنها تخلد للراحة، وكأنها ستتماثل للشفاء قريباً!
تشارلز ضرب بهذا التقليد عرض الحائط وأبلغ الشعب بإيجاز بالعلة من دون أن يفصح حتى عن نوعها تماماً. وحذت حذوه أميرة ويلز كيت ميدلتون (42 عاماً) في آذار (مارس) الماضي لتكشف عن أنها هي الأخرى قد بدأت المعالجة الكيماوية لمكافحة سرطان أصابها.
وعلى المستوى العام، تجلى التغيير الأهم لتوجه القصر في النداء الذي أطلقته هي وزوجها الأمير وليام حول غزة في شباط (فبراير) "لإنهاء القتال في أقرب وقت ممكن"، وأكدا فيه أن "الحجم الهائل للمعاناة الإنسانية" يجعل إحلال السلام ضرورة ملحة في القطاع "حيث قتل الكثيرون جداً". وأضافا أن "هناك حاجة ماسة لزيادة الدعم الإنساني لغزة". وشجبا هجمات "حماس" كما شددا على وجوب تحرير الرهائن. أعرب محافظون عن استغرابهم انتقادات الأميرين المبطنة لإسرائيل. ولفت آخرون إلى أن جدة وليام الراحلة أو والده لم يكونا ليفصحا عن مشاعر من هذا النوع. ولا يستبعد أن تكون جرأة الشابين قد سببت بعض المتاعب للقصر في دولة يتهافت قادتها على دعم العدوان على غزة بلا تردد!
لكن أياً كانت التداعيات، فالملك يعرف كيف يتصدى لها. والمشكلات التي واجهها جعلته فناناً في التعاطي مع أزمات كانت ستلحق به وبعائلته الكثير من الأذى لولا رباطة جأشه وقدرته على تدوير الزوايا.
وكانت أم المشكلات هي القنابل التي فجرها ابنه هاري وزوجته ميغان ماركل في مقابلتهما المطولة مع أوبرا وينفري (آذار 2021) ثم في شريطهما "هاري وميغان" (كانون الأول 2022) وكتاب "الاحتياطي" الذي نشر فيه هاري لاحقاً الكثير من "الغسيل الوسخ" عن الأمير، وليام، ووالده، وآخرين. والأدهى أن صورة "الأخوين العدوين" بدأت تخرج إلى العلن السنة الأخيرة من حياة الملكة وبعيد رحيلها.
لذا وصل تشارلز في ظروف أقل ما يقال عنها إنها كانت صعبة إلى المنصب الذي انتظره نحو ستين عاماً. وبعد تنصيبه، أخذ "تمرد" هاري يهدأ شيئاً فشيئاً لتهب عاصفة أخرى في أوائل العام الحالي، كانت من صنع المرض الذي وضع حياته هو وكنّته كيت في دائرة الخطر. لكن ها هي الغمامة الداكنة تأخذ بالانقشاع مع استقرار حالة كل منهما.
التحديات العائلية التي تتمثل في علاقة هاري وميغان من ناحية والعائلة المالكة من ناحية أخرى، صارت في مرحلة بداية النهاية كما يُقال. ويتردد أن "صلحاً" وشيكاً قد يعيد جزءاً من المياه إلى مجاريها، ففي المحن يلتئم شمل المحبين مهما توترت صلاتهم.
أما التحديات السياسية الناجمة عن علاقات مكونات المملكة المتحدة الثلاثة التي تهدد بتفكيكها، فهو يشتغل عليها باجتهاد. وقد استهل عهده بزيارة كل منها. كما كان شريكاً في محاولة رئيس الوزراء ريشي سوناك نزع فتيل أحد ألغام البريكست الإيرلندية بواسطة اتفاق إطار عمل وندسور الخاص في شباط الماضي. وتوجه في أولى زياراته الأوروبية إلى ألمانيا حيث خطب في البرلمان باللغتين الإنكليزية والألمانية. ثم حلّ ضيفاً على باريس.
وقبل أن يختتم رحلاته الخارجية الخمس كملك بزيارة دبي للمشاركة في "كوب 28“، سافر إلى كينيا "البعيدة". وهي من دول الكومونولث الذي سيغادره عدد من أعضائه، ما سيعني خسارة معنوية لبريطانيا. كما أن لكينيا فصلاً كبيراً في كتاب العذاب الذي ذاقه كثيرون على يد الاستعمار البريطاني. الرسالة التي حملتها زيارة الملك وتعبيره عن الألم المجبول بالخجل من ماضي بلاده الإمبراطوري، كانا مفيدين. ولو اعتذر عن تلك الارتكابات ووعد بدفع التعويضات عنها، لقطع شوطاً بعيداً على طريق تضميد جراح الضحايا. بيد أنه كان وفياً لأمه التي لم تعتذر عما فعلته الإمبراطورية في الهند وإيرلندا وغيرهما. وربما سيفعل في المرة المقبلة. ألم نقل إن التغيير تدريجي بالنسبة إليه؟
التعليقات