عندما كنا صغاراً، قبل أن نكبر ونركب الطائرات ونسافر إلى حواضر العالم وعواصمه الكبرى، كنا نظن تلك البلاد جنة الله على الأرض، وأن أهلها أسعد خلق الله. ولكن بعد أن رأينا هذه الجنة المتخيلة، أدركنا أننا كنا واهمين، وأن أهلها يعانون من الصقيع، ليس صقيع الأرض الذي يمكن التغلب عليه بطرق التدفئة المختلفة، ولكن صقيع القلوب الذي لا تنفع معه كل الوسائل والأجهزة التي أخرجتها مصانع هذه الدول المتقدمة.
أمشي في شوارع مدينةٍ من مدن بلادٍ كانت توصف ذات يومٍ بالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فأرى مناظر لم أرها في مدن بلداننا حديثة الاستقلال عندما كانت فقيرة. أرى رجالاً ونساءً في خريف العمر، وآخرين في منتصفه أو بعد الربيع بقليل، يفترشون أرصفة الشوارع، يتخذون منها بيوتاً، ليس في أطراف المدينة، وإنما وسط مركزها التجاري، حيث تقع المحلات التي تبيع أغلى ماركات الملابس والعطور وأدوات الزينة، وتحوي طوابقها المتعددة أحدث ما أنتجته مصانع الغرب والشرق من وسائل الرفاهية والراحة في عصرنا هذا، مما لا يستطيع شراءه سوى أصحاب الدخول المرتفعة ممن يملكون المال والجاه والسلطة.
يسمونهم هنا (هوملس) وأسميهم أنا «وصمة عار» في جبين المدن الحديثة والدول العظمى؟
أتساءل: ألا يوجد لهؤلاء المفترشين الأرض أبناءٌ وأقاربُ يسألون عنهم؟ ألم يكن هؤلاء في يوم من الأيام يملكون بيوتاً، أو يقيمون في بيوت مستأجرة على الأقل؟ ألم يكن هؤلاء يعملون ولهم دخول أو معاشات بعد تقاعدهم؟
فلنسلم جدلاً بأنه ليس لهؤلاء أبناء، ولا أهل، ولا أقارب يسألون عنهم، أليس لهم دولة تهتم بشؤونهم؟
أذكر أنه عندما قامت دولتنا، قبل 53 عاماً فقط، كان من الوزارات المهمة التي أنشئت فيها وزارة أطلق عليها «وزارة العمل والشؤون الاجتماعية» وقتها. كان من مهام هذه الوزارة، رغم أنه لم يكن في الإمارات «هوملس» على الإطلاق، أن تبحث عن الذين لا دخل لهم وذوي الدخول الضعيفة، مثل اليتامى والأرامل وكبار السن وغيرهم، وتقديم المساعدات الاجتماعية لهم. كما أنشئت وزارة للإسكان مهمتها توفير المساكن لأبناء الإمارات الذين لا مساكن لديهم أو بيوتهم قديمة، فلماذا لا تفعل الدول العظمى مثل ما فعلت وتفعل دولتنا منذ قيامها، فتؤمن لهؤلاء الذين يقيمون على أرصفة الشوارع ويتسولون لقمة عيشهم المسكن الذي يؤويهم، وتوفر لهم ما يحفظ كرامتهم وكرامة دولهم العظمى؟
سؤال ربما طرحناه على أنفسنا كثيراً ونحن نتجول في عواصم الغرب ومدنه الكبرى سائحين، أو متسوقين، أو متسكعين، يدفعنا الفضول لمعرفة سر هؤلاء الذين يعيشون على هامش الحياة رغم أنهم يحتلون أرصفة شوارع أحدث المدن وأرضيات محطات المترو وأجمل الحدائق بالقرب من مراكزها التجارية الكبرى.
ليس الفضول وحده هو ما يدفعنا لطرح هذا السؤال، وإنما هو المنطق الذي لا يستطيع أن يوازن بين حياة الرفاهية والغنى التي تعيشها هذه الدول والحالة المزرية التي يعيشها هؤلاء النائمون في الزوايا وعلى أرصفة الشوارع، غير عابئين بالضجيج الذي تحدثه السيارات ووسائل النقل المختلفة وأصوات العابرين، كأنهم في عالم آخر لا علاقة لهم بما يدور حولهم.
يقولون إنها ضريبة المدنية، حين يتغول المال ويصبح المسيطر على العقول والمتحكم في حركة الحياة. ونقول لا بارك الله في المدنية ولا في المال إذا كانا سيرميان بعض البشر على أرصفة الشوارع دون مأوى ويحولانهم إلى أحياء على هامش الحياة.
تذكرت وأنا أمر بالمشردين المقيمين في شوارع المدينة التي أكتب منها هذا المقال بطل رواية الكاتب الفرنسي الشهير فيكتور هوغو «البؤساء» جان فالجان، ذلك البائس الذي حُكِم عليه بالسجن لأنه سرق رغيفاً كي يطعم أخته الأرملة وأطفالها السبعة الذين يعيلهم بعد أن عانى من الفقر والعوز، ثم أمضى حياته كلها بعد ذلك مُطارَداً. صحيح أن الفقر لا يبرر السرقة، لكن ما أراد أن يقوله هوغو، كما جاء في مقدمة روايته، هو أن العادات والقوانين تخلق ظرفاً اجتماعياً هو نوعٌ من جحيمٍ بشري.
الحياة على هامش الحياة في مدينة تضج بالحياة هو الجحيم عينه. ربما كان هذا هو ما لم يقله هوغو في مقدمته.
التعليقات