هل لديك فكرة، ولو نسبيّة، عن عدد علماء اللغة وفقهائها وأساتذتها المبرّزين، في العالم العربي؟

لا علاقة للسؤال بالإحصاء، فالغاية إلقاء حصاة لاستطلاع فيزياء تأثير الأفكار، في مياه العمل العربي المشترك. لا تنصرفنّ دعابة القارئ إلى أن القلم يشبّه المشهد بتلك الطرفة الفرنسية عن جبنة «الغرويير»: «كلّما ازدادت الجبنة ازدادت حفرها، وكلّما ازدادت الحفر، نقصت الجبنة». في القرون الثالث والرابع والخامس الهجرية، كان عدد سكان الكوكب، دون ثلاثمئة مليون نسمة، شادت الحضارة الإسلامية أكبر مكتبة للعلوم اللغوية، وبغير تحفظ، لم تشهد القرون العشرة الأخيرة، بصمات فريدةً في تلك الميادين، بل وقع اللغويون والنحاة في فخ شرّ المنهجيات، فأدمنوا الشروح والمتون والهوامش والحواشي، وعجائب النظم مثل «ألفيّة بن مالك»، وكأن الطالب إذا حفظ فذلك برهان على الفهم والاستيعاب. المأساة أن كراكيب تلك التعقيدات هي التي صارت في تاريخنا الحديث، «المنارات الهادية» لواضعي مناهج العربية.

في القرن السادس الهجري، لم يكن عدد نفوس الكوكب كله قد بلغ المليون الثلاثمئة، آنذاك كان ابن مضاء القرطبي يعلن ثورته في كتابه العاصف: «الردّ على النحاة»، وكان معاصره العملاق ابن رشد، يؤلف «الضروري في صناعة النحو». لم يسمعهما أحد، أو يسمع لهما أو يستمع قوليهما. العرب اليوم أربعمئة مليون أغلبهم متعثر في لغته. لدينا اتحاد مجامع اللغة العربية، وآلاف اللغويين خارج تلك المؤسسات. لكن، واعربيّتاه! لا يحسبنّ أحد أن القلم يغمز من قناة النحاة المعاصرين، فهؤلاء لا ينطبق عليهم قول نظرائهم القدامى: «النحو صنعتنا، واللحن عادتنا»، لكن الأحوال لا تسرّ الناظرين، ولا الذين يغضّون الطرْف عن الأهوال.

لك أن تحار في كنه هذه القضايا: مَن غيرُ علماء اللغة يستطيع حمل أمانة تجديد حياة العربية بدماء جديدة؟ عندما تنتظر الجواب، يفاجئك الصمت الرهيب. المشهد: أغرب لعبة كرة طائرة في مباراة لا تسقط فيها الكرة، فلا أهداف. واضعو مناهج العربية يتذرّعون بأن أيّ تصرّف في اللغة، تبسيطاً أو تطويراً، إنما هو مناط بعهدة اللغويين، وعلماء اللغة يتعللون بأن أيّ تغيير ولو كان مثقال ذرّة، سيُبطل كل سلسلة الجبال التي أعلى بنيانها ابن جنّي في «الخصائص»، عبدالقاهر الجرجاني في «أسرار البلاغة»، الزمخشري في «الكشاف»، إلى د. فاضل السّامرائي و«معاني النحو». حين كان الناس أقلّ، كانت الجهود أكثر والعطاء أوفر.

لزوم ما يلزم: النتيجة التواكلية: على العرب أن يحلّوا مشكلة التواكل، قبل الوقوع في مأساة التآكل.