أخبرني صديق كاتب أنه، أثناء تسجيل حوار تلفزيوني معه في مكتبته المنزلية، طلب منه المخرج أن يجلس على طاولة المكتب، ويكتب «أي شيء» على شاشة الحاسوب. قال له: «ليس مهماً ما ستكتب، المهم اكتب». كان المخرج مهتماً بإظهار حركة أصابع يدي الكاتب على لوحة مفاتيح الحاسوب، وليس بما ستكتبه تلك الأصابع.

قال هذا الصديق أيضاً إن ذلك كان بمثابة اختبار له أمام نفسه، في المقام الأول، لمعرفة ما الذي سيخطر في باله لحظتها من كلمات، ليس ضرورياً أن تكون عبارات مترابطة، فالمخرج وكذلك المصوّر قالا له: «اكتب أي شيء». لم يكن يعنيهما المحتوى، وإنما إظهار طقسه وهو يكتب. قال أيضاً إنه حمد الله حين شاهد الحوار معه بعد بثّه على الشاشة، لأن الكاميرا لم تظهر ما كتبته عليها، وإنما وجهت نحو حركة أصابع يديه على لوحة الكتابة، ولم تظهر الكلمات التي خطرت في ذهنه حينها.

كانت كلمات عفوية جداً، لكن الكلمة لا تأخذ معناها إلا في سياق كتابي معيّن، وهذا ما لم يفعله الصديق لحظة التصوير، لذلك فإن تلك السطور من المفردات التي كتبها ستبدو مضحكة لمن يقرؤها، وأنا أضيف هنا، مقلّداً المهتمين بعلم النفس، أن تلك المفردات العفوية، المبعثرة، غير المترابطة، ربما كانت ستقدّم مفاتيح يستفاد منها في معرفة شخصية هذا الصديق، والأفكار والهواجس التي تشغله، وإلا لماذا هي بالذات خطرت في ذهنه لحظة التسجيل الذي عدّه هو نفسه بمثابة اختبار له.

ولكون تجربة أو اختبار الصديق في كتابة كلمات عليه استحضارها بسرعة وببديهية تمّت أمام شاشة الحاسوب وعلى لوحة الحروف فيه، فإن ذلك حملني على عقد المقارنة بين ما «نخربشه» جميعاً بالقلم والورقة، ليس بغاية أن نكتب شيئاً محدداً، مقالاً مثلاً أو رسالة، وإنما هي «خربشة من أجل الخربشة»، نأتي بها إما على سبيل التسلية أو تخفيف الشعور برتابة مرور الوقت. وبوسع أي منا أيضاً أن يتذكر مرّة أو مرّات عاقبه فيها المعلم في المدرسة، لأنه ضبطه يرسم خطوطاً أو داوئر أو يكتب كلمات ما، بينما المعلم منهمك في شرح الدرس، الذي بدا للتلميذ مملاً ومضجراً أو صعباً، فأخذ في تسلية نفسه بالخربشات على الورق.

عادةٌ مثل هذه ستلازمنا في أعمارنا اللاحقة أيضاً. مثلاً حين نكون مشاركين في اجتماع ما، فحتى لو كنّا حريصين على متابعة ما يدور من مناقشات تجري فيه، فإن ذلك لن يمنعنا من أن «نُخربش» بالقلم على الورقة البيضاء أمامنا، وكما هي خربشات الصديق على شاشة الحاسوب، فإنّ الخربشات على الورق قد تضيء جانباً من شخصياتنا.