تكاد إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تستحق الشماتة والشفقة لو لم يكن لتخبطها تداعيات جدية ومؤلمة. هذا الأسبوع أتى بتطورات لا بد من أن تكون أدّت بفريق بايدن إلى أن يلعن حظه ومنطقة الشرق الأوسط برمالها المتحركة التي تغرق بايدن وربما معه حظوظه في الانتخابات الرئاسية. من الساحة الإيرانية حيث كان رجال الرئيس الأميركي يحوكون التفاهمات مع الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية أمير حسين عبد اللهيان قبل مصرع الرجلين في حادث طائرة مروحية ليس محسوماً إن كان مدبراً... إلى طلب المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرة توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت وقادة في "حماس" الذي أدى إلى انتفاضة الكونغرس ضد المحكمة مع فرش الزهور لاستقبال نتنياهو بطلاً مظلوماً الأسبوع المقبل، فيما يستمر في حرب التجويع والإبادة للفلسطينيين زاعماً أنه يحارب "حماس"... إلى اعتراف النروج وأيرلندا وإسبانيا بالدولة الفلسطينية بترحيب من الاتحاد الأوروبي وسط دعم عدد من الدول الأوروبية المهمة للمحكمة الجنائية وإعرابها عن استعدادها لتنفيذ أوامر اعتقال نتنياهو وغالانت عندما تصدر، ما يبيّن الاختلاف الجذري بين الشركاء الغربيين... إلى تأثير كل ذلك على ما يعتبره فريق بايدن الفرصة المواتية لإنجاز تاريخي بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية يمر من وجهة نظره بموافقة إسرائيل على مبدأ قيام الدولة الفلسطينية، فيما تنظر الرياض إلى المباحثات مع واشنطن في شأن الاتفاقية الدفاعية والتعاون النووي السلمي بأنها ثنائية وليست ثلاثية كما يتصورها فريق بايدن الحالم بتلك الصفقة الكبرى Grand Bargain رغم المقاومة الشرسة لها من إسرائيل.

فماذا في التفاصيل؟ وما الذي ينتظر إدارة بايدن من مفاجآت ومطبّات آتية من الشرق الأوسط فيما تحاول الإبحار وسط عاصفة محليّة، ليس فقط مع الكونغرس، بل داخل الحزب الديموقراطي المنقسم جذرياً لأسباب عديدة، من بينها إسرائيل وحربها على غزة؟

لنبدأ من إيران حيث كان رجل الشرق الأوسط الأول في إدارة بايدن الدبلوماسي المخضرم بريت ماكغورك يسعى لحياكة تفاهمات مفصلية مع أركان النظام في طهران قبل سقوط طائرة رئيسي وفريقه. كانت الأجواء تبشّر إدارة بايدن بالتوصل إلى خريطة طريق من نوع أو آخر بحيث يتم إرضاء أولوية إيران برفع العقوبات عنها مع عدم المس ببرنامجها النووي الفائق الأهمية لها. في المقابل، تتعهد طهران لجم الحوثي اليمني في البحر الأحمر و"حزب الله" في لبنان وسوريا كي لا تتوسّع رقعة الحرب لتصبح حرباً إقليمية مع إسرائيل، مع توطيد الأمر الواقع لتخلّي طهران عملياً عن "حماس". هذا مع حض طهران على عدم تعطيل حل الدولتين حتى وإن لم يكن بالمستوى المطلوب من إسرائيل الموافقة عليه.

ثم بالطبع، أراد بربت ماكغورك ضمان عدم قيام أركان النظام في طهران بتعطيل الاتفاقية الدفاعية التي يعمل على إبرامها مع السعودية مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان. ذلك أن تاريخ إيران في تخريب أيّ علاقات أميركية أمنية أو دفاعية مع الدول العربية يشهد على معارضتها أي تقارب أمني أو وجود دفاعي أميركي مع هذه الدول.

مصرع رئيسي وعبداللهيان سيؤثر في روزنامة طموحات فريق بايدن، لأنه لن يكون في وسع الدبلوماسية الإيرانية المضي قدماً إلى الأمام، مع أن النظام باقٍ كما هو، والآمر الناهي في السياسة الإيرانية هو مرشد الجمهورية آية الله علي خامنئي. لا نعرف إن كان تحطيم الطائرة أتى بقرار له علاقة بالصراع على السلطة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، علماً أن مقتل رئيسي يعني، ليس فقط شغور منصب الرئيس، بل أيضاً يعني الصراع على خلافة المرشد، علماً أن رئيسي كان في طليعة المرشحين لتولي المنصب بعد وفاة المرشد الذي بلغ 85 عاماً.

المسؤولون في طهران، حسبما نقل عنهم مسؤول سابق في دولة شرقية، لا يريدون الاستعجال إلى ملء منصبَي الرئيس ووزير الخارجية. فهم يفضلون الآن "تجميد" أدوار إيران ونشاطاتها لأن في مصلحتهم عدم الانخراط الكامل في المسائل المطروحة، من نيات إسرائيل في غزة وخطط اقتحامها رفح، إلى الاتفاقية الدفاعية التي تبحثها الولايات المتحدة مع السعودية.

بكلام آخر، إن موازين القوى الداخلية لها الأولوية، وطهران ليست في عجلة من أمرها. وبحسب المسؤول السابق "الكل سيتفهم تجميد إيران خطواتها، وهذا مفيد لطهران. لأنها في حاجة إلى أخذ وقتها".

فالاستقرار الداخلي له الأولوية القاطعة في هذا المنعطف، ما سيؤخّر الروزنامة وسيعطي القيادة في طهران ما تحتاجه من الوقت بلا ملامة. هذا يناسب طهران، لكنه بالتأكيد لا يناسب فريق بايدن الذي أراد تحقيق النقلة مع إيران التي لطالما عمل نحوها عبر عمان.

ما لا يناسب فريق بايدن كذلك هو اصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق قيادات إسرائيل و"حماس" والذي أعلن المدعي العام للمحكمة، كريم خان، سعيه لتحقيقه وسط هجمات وتهديدات له من أعضاء في الكونغرس الأميركي ومحاربة جهوده من داخل إدارة بايدن على مستوى وزير الخارجية أنطوني بلينكن. ما تجاهله الطرف الأميركي هو الشق المتعلق بإصدار أوامر اعتقال بحق ثلاثة من قادة "حماس" هم يحيى السنوار ومحمد ضيف وإسماعيل هنية بحد ذاته، رغم أهميته.

ذلك أن ما أغضب الطرفين الإسرائيلي والأميركي هو أن المحكمة الجنائية وضعت بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت في خانة واحدة مع قادة "حماس" بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة وإسرائيل على خلفية الحرب المستمرة منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر). وما أغضب أطرافاً فلسطينية هو ما اعتبرته وضع الجلاد والضحية في خانة واحدة، معتبرة أن ما تقوم به "حماس" هو مقاومة للاحتلال الإسرائيلي لا تطبق عليه معايير جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

الازدواجية واضحة في المعسكرين، لأن كليهما يتعالى على واجبات حماية المدنيين في زمن الحرب وعدم استخدام المدنيين غطاءً مهما كانت المبررات.

التهديدات الأميركية للقضاة في المحكمة وللمدعي العام إنما هي وصمة عار على جبين المشرّعين الأميركيين، لا سيما أولئك الذين كانوا قد رحبوا بقرار المحكمة الجنائية بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومدحوه، معتبرين أنه ارتكب جرائم حرب في حرب أوكرانيا. مشينة هي هرولة بعض أعضاء الكونغرس وأطراف في إدارة بايدن إلى تهديد القضاة وإدانة المحكمة الجنائية لعزمها على إصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو وغالانت، رغم إقرارهم بأن تجويع أهالي غزة هو سياسة إسرائيلية ينتقدونها، ورغم علمهم الكامل بأن لدى المحكمة الجنائية أدلة وإثباتات على ارتكاب القادة الإسرائيليين وقادة في "حماس" جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

ما صدر وسيصدر عن المحكمة الجنائية الدولية يجب أن يؤخذ بجدية بصفته المنبّه المهم لكل من إسرائيل، الدولة القائمة باحتلال الأراضي الفلسطينية، وكذلك لقوى المقاومة للاحتلال التي عليها الآن ألّا تستخدم تعبير المقاومة على أنه تأشيرة لارتكاب جرائم ضد المدنيين يمكنها من الإفلات من العقاب والمحاسبة. إنه جرس إنذار ينبّه كل الأطراف، بما في ذلك الدول العربية التي شأنها شأن إيران وتركيا والصين وروسيا والولايات المتحدة رفضت الانضمام إلى المحكمة الجنائية التي تلتزم بها وبقراراتها 124 دولة بما فيها أكثرية الدول الأوروبية.

هذه الخطوة السابقة للمحكمة الجنائية الدولية - إذا تحوّلت إلى إصدار مذكرات توقيف - ستلزم الدول الأوروبية الموقّعة باعتقال نتنياهو وغالانت وكل من يُدان بارتكاب جرائم حرب. لن يكون سهلاً على قطر أو تركيا أو إيران الاستمرار في توفير المقر الآمن لإسماعيل هنية، على سبيل المثال، لأن هذه الدول ترحب بالشق المتعلق بالسابقة الإسرائيلية. لن يكون في الوسع الانتقاء لأن المحكمة لن تفصل بين المذكرات المعنية بالإسرائيليين وتلك بالفلسطينيين. إنها حزمة واحدة.

وللتذكير، فإن انتماء دولة فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية هو الذي مكّن المحكمة من اتخاذ هذه الخطوات السابقة بحق إسرائيل. ضمن الفوائد من عضوية فلسطين في المحكمة هو محاسبة الاحتلال على ما يقوم به ومحاكمته. هذا بالتأكيد من دون إعفاء للأطراف الفلسطينية أو غير الفلسطينية التي تتجاوز القانون الدولي باسم مكافحة الاحتلال.

لم يكن الدعم الأوروبي لطلب المدعي العام من المحكمة الجنائية وحده الذي أثار الهيستيريا بل تفاقمت الهيستيريا الإسرائيلية نتيجة تزامن ذلك مع اعتراف دول أوروبية مهمة بدولة فلسطين عشية قمة الاتحاد الأوروبي وقبيل قمة الناتو في شهر تموز (يوليو) المقبل.

لكن قبل ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن بنيامين نتنياهو تلقى طلب المحكمة الجنائية وحوّله إلى ذخيرة إنقاذ سياسي له في الداخل الإسرائيلي وأمام الكونغرس الأميركي وفي وجه إدارة بايدن. حشد وراءه ووراء وزير الدفاع العاطفة الوطنية الإسرائيلية مستخدماً ما ينطوي عليه الطلب من شبه محاكمة للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية. وها هو يتوجه إلى واشنطن ليخاطب الكونغرس بلغة الضحية فيما هو الجلاد بكل معنى الكلمة وتفاصيلها. والأنكى، أن الرئيس بايدن نفسه لطالما تحدّث عن تجاوزات نتنياهو ضد المدنيين الفلسطينيين... لكنه لم يجرؤ سوى على أنصاف الخطوات للجمه عن اقتحام رفح موقتاً. والخوف الآن أن يتسلح نتنياهو بتدفق الدعم الأميركي عليه ليقوم بجريمة حرب أخرى وجرائم ضد الإنسانية... بمكافأة، وليس بمحاسبة.

ماذا سيفعل الأوروبيون؟ بالتأكيد مهم جداً تنفيذهم أوامر اعتقال نتنياهو وغالانت إذا صدرت. الاعتراف بالدولة الفلسطينية ليس أمراً رمزياً عابراً بل هو مفيد أيضاً لإدارة بايدن - رغم عدم ترحيبها به - لأن قيام دولة فلسطين بجانب إسرائيل هو مبدأ يعمل عليه فريق بايدن حتى وإن كان مجرّداً من المعايير المعهودة لقيام الدولة الفلسطينية.

لكن كل ذلك لن يفيد ما دام لا إدارة بايدن ولا الحكومات الأوروبية جاهزة لفرض عقوبات على إسرائيل لمحاسبتها على تعطيل حل الدولتين والاستمرار في رفض هذا الحل السياسي للنزاع بإجماع دولي.

إدارة بايدن تريد أن تأكل قالب الحلوى من دون أن تمسّ جماله وكماله. فهي تتذاكى على مفهوم الدولة الفلسطينية لترغيب إسرائيل به، وتفشل. وأمام إفشال إسرائيل الكلي لجهودها، تترنح إدارة بايدن بين التذمر والشكوى وبين الإقرار بأن لا حيلة لها أمام إسرائيل ومَن يدعمها في الساحة الأميركية، بالذات في سنة انتخابية، سوى الانحناء أمامها بكل ما في ذلك من كلفة وثمن تدفعه إدارة بايدن وأقطابها.

الدول العربية واعية لجوانب الضعف في الأطروحات الأميركية والوهن في وعود رجال إدارة بايدن والخيال في طموحات الصفقة الكبرى التي يحلمون بتحقيقها. لذلك، إن الدبلوماسية السعودية وعلى أعلى المستويات أوضحت مواقفها والمعايير التي تصر عليها من دون أي إقصاء أو استبعاد لكن بكل براغماتية وانفتاح. في الطليعة، وبما أن إسرائيل تعاند ضد قيام الدولة الفلسطينية، لتكن الرسالة إليها وإلى الفريق الأميركي واضحة وهي: لا دولة فلسطينية، إذاً لا تطبيع.

أما في ما يخص الربط بين الدولة والتطبيع والاتفاقية الأمنية، كما تتخيّل الصفقة الكبرى، فإن الرد السعودي واضح منذ البداية: إن الاتفاقية الدفاعية مسألة أميركية - سعودية ثنائية حصراً لمصلحة البلدين وليست رهن صفقة كبرى ثلاثية ترفض إسرائيل أول مبادئها.