غسان زقطان

بعد منتصف ليل الخميس الماضي، وصل رتلٌ طويل من آليات جيش الاحتلال إلى مركز مدينة رام الله. يبدو أن بين الإسرائيليين وهذا التوقيت علاقة غريبة؛ إذ أصبح خروجهم فيه نوع من التقليد. خرج الرتل من بوابات مستوطنة "بيت إيل" المقامة على أراضي مدينة البيرة، توأم رام الله، وقاد الجنود آلياتهم بسرعة كبيرة مهدّدة ومتنمّرة، وعبروا بموازاة حي البالوع قريباً من منزل الرئيس الفلسطيني "أبو مازن". وعندما انعطفوا عند أول إشارة ضوئية، سلك الرتل أو جزء منه الطرق الجانبية الموازية لمبنى المقاطعة في شارع الإرسال، حيث تقع مكاتب الرئاسة. وفي دقائق معدودة، كانت الآليات العسكرية وناقلات الجند تُغلق دوار المنارة وامتداد شارع الحسبة (سوق الخضار) والمدخل المؤدي إلى شارع الإرسال، حيث كانت تقع أعمدة البث والإرسال التي أقامها البريطانيون في ثلاثينات القرن الماضي وأربعيناته لإذاعة الشرق الأدنى، القدس لاحقاً، والتي سُميّ الشارع تيمناً بها.

بدأ الجنود يخرجون من أحشاء الناقلات وسيارات الجيب، ويطلقون قنابل الصوت والغاز على الشارع والشبابيك والبسطات في سوق الخضار، وينتشرون في المداخل الضيّقة للسوق ومداخل البنايات التي يعود بعضها إلى الستينات والسبعينات. وقبل اكتمال هذا الانتشار، كان عشرات الشبان يعبرون الأحياء المجاورة والشوارع الجانبية ويعتلون أسطح البنايات ليشتبكوا بالحجارة مع الجنود وسيارات الجيب. وخلال دقائق، كان هذا كله يُبثّ مباشرةً في الفضائيات، ويظهر على الشاشات في غرف الجلوس والمطاعم والمقاهي، وينتشر في أرجاء العالم.

ستنسحب الآليات صباحاً، لكنها ستعود بعد الظهر إلى مدينة البيرة، لتنتشر في شوارعها وتُطلق النار على التجمعات والمارة. والبيرة مدينة متداخلة مع رام الله، يصعب على غير العارف المدقق أو المقيم من دافعي الرسوم والضرائب البلدية وفواتير الماء والكهرباء تمييز الحدود بينهما؛ إذ تمرّ هذه الحدود على الأرصفة والأزقة والشبابيك. إنها توأمة تاريخية تجمع المدينتين بشكل وثيق، مع احتفاظ كل منهما بخصوصيتها.

في الوقت نفسه تقريباً، كانت أرتالٌ من آليات جيش الاحتلال تقتحم نابلس وجنين وطوباس وطولكرم وبلدات في الشمال، والخليل ومدن وبلدات في الجنوب، منطلقة من المستوطنات والحواجز القريبة. وكان مستوطنون مسلحون يهبطون من المستوطنات المنتشرة في كامل الضفة ويهاجمون القرى ويحرقون الكروم ويقيمون الحواجز الطيارة على الطرق ومداخل البلدات وأطرافها. وكان الجنود يحطمون أبواب البيوت وأسيجتها وحواكيرها، في مختلف أرجاء الضفة الغربية، ويقتادون شباناً ونساءً وأسرى سابقين وناشطين سياسيين إلى معسكرات الاعتقال.

يكاد هذا الوصف يكون موجزاً لليلة نموذجية من ليالي الضفة الغربية، حيث تدور حرب كانت هنا دائماً، لكنها تشهد منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي مستويات جديدة ووحشية منفلتة من كل عقال.

هذه هي "حرب إسرائيل على الضفة". عشرات الألوية من الجنود بأيدٍ خفيفة على السلاح، وأوامر فضفاضة في تأويل "الدفاع عن النفس"، ودوريات "حرس حدود"، وأكثر من نصف مليون مستوطن مسلحين ببنادق طويلة يواصل إيتمار بن غفير تسليحهم في مهرجانات عامة، مفوضين إطلاق النار ومحصنين من التحقيق والمساءلة.

يعلم هؤلاء الآن أنهم خارج المحاسبة، ويرون أن العالم عجز تماماً عن وقف حملة الإبادة في غزة، واكتفى بتلقي أرقام القتلى وخرائط المقابر الجماعية، بينما يواصل شخص مثل "كيربي"، الناطق بلسان البيت الأبيض، نقل الخطوط الحمر كلما تقدّمت آلة الموت الإسرائيلية؛ وتلتقط مرشحة سابقة للرئاسة الأميركية صوراً وهي توقّع على قذائف المدفعية عبارة "اقضوا عليهم"؛ ويقترح عضو كونغرس مخضرم إلقاء قنبلة نووية على غزة. وفي خلفية هذا كله، الذي يبدو تفويضاً مضمراً بالقتل، يتحدث الرئيس الأميركي جو بايدن عن مفهومه الفضفاض لمصطلح الإبادة، وحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.

ليست حرباً جانبية قائمة على هامش الإبادة في غزة، كما تبدو في وسائل الإعلام وتصريحات السياسيين ومداولات مجلس الأمن. يعرفون في اسرائيل ويعرف بنيامين نتنياهو في مخيلته وخطته أن الأمر سيتقرّر هنا، في تلال الضفة الغربية؛ وأن إضافته، أي نتنياهو، وبصمته التي سيتجاوز بهما بن غوريون، ستتحققان هنا في الاستيلاء على الضفة بعد تحطيم غزة. ويعرف نتنياهو أن المستوطنين هم جيشه الحقيقي بموازاة الجنرالات والجيش النظامي المتذمّر، وبهم سيدخل تاريخ الدولة اليهوديه منفّذاً لأحلام تركها مؤسسو الدولة ناقصة. ويعرف أيضاً أنه بإنهائه حربه بـ "النصر المطلق"، سيترك هؤلاء المؤسسين هناك، عند خطوط الهدنة المرسومة في نهاية أربعينات القرن الماضي، وعند تماثيلهم الناقصة.