لا شك أن الحرب على غزة باتت معادلة جديدة في إعادة ترتيب أوراق الشرق الأوسط، خيوط هذه الحرب تتشابك أطرافها مع خرائط الإقليم. لا يمكن التنبؤ بمستقبل ما بعد الحرب، إلا بعد أن تسكت أصوات البنادق.

لكل حرب بداية ونهاية، مهما بلغت قسوتها أو خسائرها أو ضحاياها، هذا هو المعتاد عبر التاريخ، لكن الحرب الإسرائيلية على غزة، اتخذت مسارات مختلفة، فقد اختلط فيها الحق الفلسطيني بالباطل الإسرائيلي، وتداخلت فيها قوى متعارضة على المسرحين الإقليمي والدولي.

هذه الحرب تشبه تلك الأحداث التي دارت أثناء الحرب العالمية الثانية، من حيث تدمير المدن والاعتداء الوحشي، والإبادة الجماعية للأطفال والنساء والشيوخ، كما أنها تستدعي نفس أجواء هذه الحرب العالمية الثانية، من حيث تكوين محاور وحلفاء، فقد باتت إسرائيل مدعومة دعماً شاملاً من حلفائها الغربيين، خصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية.

لكن هذا الدعم -مع ذروته غير المسبوقة- بدأ يتلاشى أو يتكسر لدى الرأي العام الغربي، وحتى داخل أروقة السلطة الأمريكية نفسها، نتيجة المذابح غير المسبوقة التي ارتكبتها إسرائيل، خصوصاً أن أمريكا وبعض الدول الأوروبية، ترى أن حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة، قد تجاوزت كل الخطوط الحمراء.

لذا، فإن التاريخ دائماً ما يروي لنا أنه بعد الذروة يبدأ الانكسار، ولا شك أن آلة الحرب الإسرائيلية على الأشقاء في غزة، سوف تنكسر وتتحطم، ولن تحقق أهدافها سواء المتعلقة بتصفية القضية والتهجير القسري، أم بعدم الاعتراف بوجود دولة فلسطينية، طبقاً لمشروع حل الدولتين العالمي، وهو مشروع متفق عليه من جميع الدول الناشطة على المسرح الدولي.

وقد رأينا مواقف لدول كبرى، مثل إسبانيا وأيرلندا والنرويج، تعلن عن اعترافها الرسمي بدولة فلسطينية مستقلة كاملة العضوية، وفي الطريق هناك دول أخرى مثل بلجيكا، وهو الإعلان الذي اعتبرته إسرائيل تهديداً لوجودها التاريخي والجغرافي.

إذن، هذا الاعتراف الدولي، إذا ما وضعناه بجانب اعتراف 143 دولة أخرى في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأيضاً إذا ما قرأناه في السياق التاريخي، فلا بد أن نتوقف أمام عدة ملاحظات تؤكد فرضية أن الحرب ستنتهي دون تحقيق أهداف صانعيها.

وهذه ملاحظات نتأملها في عدة شواهد دالة من بينها، أن محكمة العدل الدولية، أصدرت تدابير فورية بوقف إطلاق النار في رفح، وهي المرة الأولى التي تصدر فيها أعلى محكمة دولية قراراً بإيقاف حرب تكون إسرائيل طرفاً فيها، هذا غير اتهامها المبطن بارتكاب الإبادة الجماعية، وهو أمر مفتوح على سيناريوهات مجهولة بالنسبة لمستقبل إسرائيل القانوني والدولي.

ثمة ملاحظة أخرى تتعلق هذه المرة بالمحكمة الجنائية الدولية، فقد سعى المدعي العام للمحكمة، كريم خان، لإصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه، وهي المرة الأولى التي تصدر فيها مثل هذه الأوامر في حق رئيس وزراء إسرائيلي، الأمر الذي يعني أن إسرائيل باتت تخضع للملاحقة القانونية في المحاكم الدولية، وكانت تظن أنها بعيدة عن مثل هذه الملاحقة.

الملاحظة الأخرى، أن صورة إسرائيل في أذهان العالم، تغيرت من دولة ديمقراطية تعيش وسط أحراش متخلفة - كما يدعون - إلى دولة ديكتاتورية يتحكم فيها فرد واحد، يتلاعب بالحرب والسلام، على مستوى الإقليم والعالم، ويتلاعب بأمان واستقرار شعبه.

إن المظاهرات والغضب في الشارع الإسرائيلي والانشقاقات بين الوزراء في مجلس الحرب، أو في الحكومة دليل على اختطاف نتنياهو للدولة الإسرائيلية نفسها.

في نهاية المطاف سوف يكتشف رئيس الوزراء الإسرائيلي أنه وحيد، ولا يقود دولة ديمقراطية -كما يدعي- بل إنه سوف يخسر الاتفاقيات الراسخة التي حصنت الوجود الإسرائيلي في المنطقة، أو تلك التي كان يأمل في أن تحدث في المستقبل.

لا شك إن إسرائيل، تغيرت صورتها، ولاشك أن الحرب سوف تنتهي، ولاشك أن دولة فلسطين قادمة في الطريق لا محالة.