الحضارة، النهضة، التنمية، التحديث، التطوير، الازدهار، الرُقي، الرِفعة، التمدن، المجد، الريادة، جميعها نتاج للتقدم العلمي والفكري، ونتيجة لما بذله الباحثون المتخصصون في مختلف المجالات المعرفية والعلمية والفكرية. وهذا التقدم العلمي والفكري العظيم الذي وصلت له البشرية في وقتنا الحاضر ليس إلا نتاجاً لقرون متتابعة من العمل العظيم والجهود الجبَّارة التي بذلتها المُجتمعات المُؤمنة بأهمية العلم والفكر والبحث العلمي في مختلف التخصصات العلمية والفكرية والبحثية مما ساهم في تطور الحضارة الإنسانية وتقدم البشرية بشكل عام، وتفوق تلك المجتمعات صاحبة الرِّيادة والاهتمام بالعلم والفكر والبحث العلمي بشكل خاص. نعم، لقد أثمر الاهتمام المُستمر بالعلم والفكر والبحث العلمي، خلال القرون المتتابعة، تقدماً عظيماً في مختلف المجالات العلمية والفكرية والمعرفية قادت لهذه المستويات المتقدمة جداً في المجالات الصناعية والتقنية والتكنولوجية والهندسية، وكذلك في المجالات الطبية والصحية والدوائية والصيدلانية والبيئة، بالإضافة للمجالات الخدمية المتنوعة والطبيعية كالفلك والفضاء والفيزياء والكيمياء والأحياء، وأيضاً في مجالات العلوم الإدارية والإنسانية والاجتماعية والتربوية ومنها علم النفس وعلم الاجتماع وعلم التاريخ وعلم الجغرافيا وعلم الإدارة والعلوم السياسية، وغيرها من مجالات علمية وفكرية وبحثية متخصصة. فإذا أدركنا هذه الحقائق التاريخية والقائمة عن أهمية العلم والفكر والبحث العلمي وما أثمر من تقدم عظيم شهدته البشرية، فإننا حتماً ندرك الحالة المعاكسة لعدم الاهتمام بالعلم والفكر والبحث العلمي وما سوف تحصده البشرية وما سوف تكون عليه من تخلف وانحطاط وتأخر وتراجع، وانتشار للفقر والجوع والأوبئة، ومعاناة إنسانية كما شهدته الحياة البدائية الأولى قبل العلم والمعرفة والبحث العلمي. نعم، إن عقد المقارنة بين حال البشرية وما وصلت له في وقتنا الراهن، وحال البشرية وما كانت عليه قبل عدة قرون، مسألة غاية في الأهمية لمعرفة الفرق بين العصور التي عاشتها البشرية على امتداد التاريخ من جهة، ومن جهة أخرى لمعرفة وتوقع الفرق بين المجتمعات التي تهتم بالعلم والفكر والمعرفة، والمجتمعات التي تجاهلت العلم وأهملت الفكر واستبعدت البحث العلمي من اهتماماتها. وانطلاقاً من هذه المعادلة البسيطة التي تربط بين الاهتمام بالعلم والفكر والبحث العلمي من جهة، والتطور والتقدم والتفوق والريادة والتنمية الشاملة التي وصلت لها بعض المجتمعات في وقتنا الحاضر، يأتي التساؤل القائل: ما الأدوار التي تلعبها المراكز البحثية في سبيل تقدم وتطور وتنمية وخدمة ورفعة المجتمع الذي تنتمي له؟

إن أهمية هذا التساؤل تأتي من حجم الأدوار العظيمة والمميزة والكبيرة والمهمة التي تلعبها المراكز البحثية، على اختلاف تخصصاتها ومجالاتها العلمية والفكرية والطبيعية، في سبيل تقدم وتطور وتنمية وخدمة ورفعة المجتمعات التي تنتمي لها. نعم، إن المراكز البحثية تلعب أدوراً عظيمة في سبيل تقدم وتطور وتنمية المجتمعات التي تنتمي لها بشكل خاص، وخدمة الحياة والحضارة البشرية بشكل عام، انطلاقاً من تركيزها على التخصص الدقيق الذي تأسست لخدمته، واستقطابها الدقيق للباحثين المتخصصين في المجال الذي تأسست لأجل خدمته، والاحترافية العالية للقيادات الإدارية التي اُختيرت وكُلفت لأجل خدمة الأهداف العليا التي من أجلها تأسست تلك المراكز البحثية المتخصصة. فإذا أدركنا أن المراكز البحثية في المجتمعات المتقدمة تقوم على هذه القيم والمبادئ الرصينة التي مكنتها من أن تلعب أدواراً عظيمة في المجتمعات التي تنتمي لها، فإننا ندرك أيضاً أن هذه المكانة المميزة والأدوار العظيمة التي جعلت منها مراكز بحثية ذات شأن في المجتمع وخارجه هو أنها مراكز التزمت بالقيم العليا للبحث العلمي، واستقطبت بمهنية عالية الباحثين المتخصصين والمؤهلين تأهيلاً علمياً وفكرياً ومعرفياً في المجال الذي تأسست لأجل خدمته، واستقطبت باحترافية القيادات الإدارية القادرة على خدمة المجال الذي تأسست لتحقيق أهدافه بتوفير البيئة الصحية والمناسبة والناجحة على جميع المستويات. نعم، إنها مجموعة من العوامل التي يجب توفرها في هذه المراكز البحثية حتى تتمكن من تحقيق الأهداف السامية التي من أجلها تأسست خاصة أنها تقوم على الاستقطاب المهني والاحترافي للعقول المتخصصة علمياً وفكرياً ومعرفياً وبحثياً، وكذلك استقطاب العقول الإدارية المحترفة وذات الخبرة في مجال البحث العلمي والفكري والمعرفي. فإذا أنزلنا هذه المعايير العلمية الدقيقة التي يجب أن تتوفر في المراكز البحثية المتخصصة على واقع المراكز البحثية في المجتمعات المتقدمة، فإننا نجد النتيجة القائلة إن هذه المراكز البحثية المتقدمة لعبت، وما زالت تلعب، أدواراً عظيمة في سبيل تقدم وتنمية وتطور ورفعة تلك المجتمعات حتى أصبحت في الصفوف الأولى في المجالات الصناعية والتقنية والتكنولوجية والهندسية، وكذلك في مختلف التخصصات والمجالات العلمية والطبيعية والفكرية والمعرفية. نعم، هكذا يشهد الواقع، حيث التقدم والتطور والتنمية الشاملة، في جميع المجالات العلمية والطبيعية والإنسانية والاجتماعية، التي حققتها المجتمعات المتقدمة والصناعية، ليس إلا نتيجة طبيعية لاحترافية ومهنية المراكز البحثية المُتخصصة في تلك المجتمعات. فإذا أخذنا هذه النتيجة القائلة إن المراكز البحثية المتخصصة القائمة على الاحترافية والمهنية العالية تلعب أدواراً عظيمة في سبيل ريادة المجتمعات التي تنتمي لها، فهل ذلك يعني أن عدم تقدم المجتمعات الأخرى ناشئ من عدم احترافية ومهنية المراكز البحثية فيها؟

إن الإجابة على هذا التساؤل المباشر فيه الكثير من الصعوبة، وكذلك غاية في التعقيد، بحكم الحاجة الحقيقية للدراسة والبحث العلمي الدقيق لمعرفة الواقع الحقيقي الذي تعمل فيه تلك المراكز البحثية، ومعرفة حال تلك المراكز البحثية من داخلها والبيئة التي وفرتها قياداتها الإدارية لجميع العاملين فيها من باحثين وفرق عمل مساندة. نعم، إنه من الإنصاف لتلك المراكز البحثية المنتشرة في الكثير من المجتمعات غير المتقدمة حول العالم أن تُدرس من داخلها لمعرفة إن كانت تعمل وفق القيم المتعارف عليها دولياً في مجال البحث العلمي أم لا تلتزم بتلك القيم، وكذلك لمعرفة المعايير التي تطبقها تلك المراكز عند استقطابها للباحثين والإداريين، وإن كانت احترافية ومهنية أم أنها بعيدة عن تلك المعايير الاحترافية في المجالات البحثية والمعرفية والفكرية والإدارية. فإذا كان الإنصاف العلمي والفكري يفرض عدم الحكم على المراكز البحثية في المجتمعات غير المتقدمة وهل هي مراكز بحثية احترافية ومهنية من عدمه، فإن مستوى التطور والتنمية في تلك المجتمعات غير المتقدمة يعطينا إجابات عامة عن مدى فعالية تلك المراكز البحثية، ومدى الاحترافية والمهنية التي تطبقها عند استقطابها للباحثين والإداريين، ومدى التزامها بالتخصصات والمجالات التي تأسست لأجل خدمتها، ومدى قدرتها على مواكبة مستويات التطور والتقدم والاحترافية التي وصلت لها المجتمعات المتقدمة والصناعية. نعم، هناك الكثير من التساؤلات والنقاشات التي يفترض أن تُطرح وتعرض قبل الحكم الدقيق على واقع المراكز البحثية في المجتمعات المُستوردة والمُستهلكة لمنتجات وصادرات المجتمعات المتقدمة والصناعية.

وفي الختام من الأهمية القول إن المراكز البحثية في المجتمعات المتقدمة والصناعية ساهمت مُساهمة عظيمة في تقدم وتطور وتنمية مجتمعاتها بسبب استقطابها للباحثين المُتخصصين والمؤهلين علمياً وفكرياً ومعرفياً، وقيادتها من إداريين محترفين قادرين على توفير بيئة صحية لجميع العاملين فيها. نعم، إن تطبيق المعايير العلمية والاحترافية في المراكز البحثية سوف يضمن بالضرورة استقطاب العقول الاحترافية والمتخصصة والمهنية القادرة على خدمة مجتمعها بالشكل الصحيح والسليم، والمحقق للمصالح العليا للمجتمع، أما الابتعاد عن المعايير العلمية سوف يؤدي بالضرورة لتغليب الاجتهادات الشخصية المُسببة لهدر المال، وتضييع الوقت، والإحباطات للباحثين المتخصصين والمؤهلين تأهيلاً علمياً وفكرياً ومعرفياً. نعم، إنها معادلة بسيطة، إلا أن نتائجها عظيمة في أي اتجاه ذهبت إليه.