الأيام حروف، والسنوات مجلدات حيَّة لا تمضي بها عواصف العمر. تضاريس تسكن مرتفعة في القلوب والعقول. أيام تحدو مسيرة العمر. شهر مايو (أيار) سنة 1967، كان حلقة الأمل التي أشعلتِ الحلمَ العربي الأسطوري. إذاعة «صوت العرب» من القاهرة، ولسانها النحاسي المجلجل المذيع أحمد سعيد، يرسم بصوته خريطةَ الزمن الرهيب. مدافع العرب ستدق قريباً أبوابَ تل أبيب، وتزحف الجيوشُ العربية لتحرير فلسطين. الرئيس جمال عبد الناصر، يطلب مغادرةَ قواتِ الأمم المتحدة الأراضيَ المصرية، ويقرّر غلق مضايق تيران أمام الملاحةِ الإسرائيلية، والملك حسين يطير إلى القاهرة ويوقّع اتفاقيةَ دفاع مشترك، مع خَصمه الشقيق الرئيس جمال عبد الناصر. كنت في السنة الأولى الثانوية بمدرسة سبها، عاصمة الجنوب الليبي. كان بيتُنا قريباً من القسم الداخلي، حيث يتجمَّع طلبة الجنوب وسرت في المدرسة الإعدادية والثانوية ومعهد المعلمين. يتجمَّع عدد كبير من الطلاب في بيتنا نتابع «صوت العرب»، مبتهجين ونحسب ساعات العد التنازلي لبداية حرب تحرير فلسطين. الرئيس جمال عبد الناصر تحدَّث في مؤتمر صحافي عالمي كبير، أعلن فيه استعداد مصر للحرب، من أجل إعادة الوضع إلى قبل سنة 1948. بعض هؤلاء الطلبة التحقوا بالكلية العسكرية للضباط ببنغازي في ما بعد، وانضمَّ بعضهم إلى حركة الضباط الوحدويين الأحرار الذين استولوا على السلطة سنة 1969. اكتظَّ البيت بالشباب المتحمسين المهللين، ولا يمكن أن أنسى الأخ عبد القادر الزروق بنظارته الطبية السميكة وهو يهتف: «الله ينصر عبد الناصر». في صباح يوم الخامس من يونيو (حزيران)، زمجر صوتُ أحمد سعيد في الراديو، يزفُّ البشارةَ التاريخية الأسطورية الكبرى: قواتنا المسلحة تندفع نحوَ تل أبيب، وطائرات العدو تتساقط بالعشرات. الفرحة كانت أكبرَ من قلوبنا وأصواتنا. زرنا والدي وكانَ مريضاً بمستشفى سبها. رافقنا بعض الزملاء. كان جالساً مع بعض أصدقائه. هو آنذاك متصرف براك الشاطئ. بشرناه ببداية الحرب لتحرير فلسطين. أطال النظرَ إلينا جميعاً في صمت، ثم ابتسم وقال: «من سيحررها، الضابط جمال عبد الناصر؟!». كانت قولته ضربةَ إحباط أخجلتنا أمام زملائنا المبتهجين بقرب تحرير فلسطين. ودّعنا الوالد والخجل يعمم رؤوسنا. عدنا إلى البيت المزدحم نتابع رشقات أحمد سعيد النارية من «صوت العرب». في اليوم الثاني اقترح أحد الإخوة أن نستمعَ إلى «إذاعة لندن». بدأت الأخبار القاتلة تأتي. الجيش الإسرائيلي احتل سيناء، بعد تدمير سلاح الجو المصري على الأرض، والجيش الإسرائيلي يتقدم في الجولان والضفة الغربية. قام عبد القادر الزروق بتكسير جهاز الراديو، ولم يتوقف عن البكاء. الضربة القاضية يوم 9 يونيو عندما اعترف الرئيس عبد الناصر بالهزيمة وقدم استقالته.

زرنا المرحوم والدي بالمستشفى، لم نتحدَّث نحن عمَّا حدث. لكنَّه قال: «الحمد لله، كنت أتوقع أن يدخل اليهود إلى القاهرة، فنحن لا نحارب اليهود الذين نعرفهم في بلداننا، يركبون الحميرَ ويبيعون أشياء بسيطة رخيصة. اليهود في فلسطين اليوم، هم من نخبة أوروبا العسكرية».

سنة 1982 كنت وزيراً للإعلام في ليبيا. زارنا أحمد سعيد، وقدَّم لي مذكرة تحوي مشروعاً لإذاعة مسموعة، تدعو إلى البحث العلمي، وتطوير مناهج التعليم، وتأسيس مشروعات صناعية، وتشيع القطاع الخاص وتطوير الاقتصاد في البلدان العربية. أحلت المذكرة إلى القيادة. وجاء الرد: نريدها إذاعة تتبنَّى نفس برامج إذاعة «صوت العرب» في الخمسينات والستينات. قدمت الرد للأستاذ أحمد سعيد. أطال النظر يقرأ صامتاً، ثم قال ضاحكاً: «الله... هو الأخ العقيد لسَّا في مدرسة سبها الإعدادية!».

تحدثنا مطولاً عما حدث في حرب يونيو سنة 1967. قال: «كنَّا نصدق كل كلمة يقولها الرئيس جمال عبد الناصر. اعتقدنا أنا ومن معي، أن تحرير فلسطين مسألة أيام قليلة، وأن الجيش الإسرائيلي مستحيل أن يصمد ساعات أمام الجيوش العربية. كانت البيانات العسكرية تأتينا من قيادة الجيش المصري، بها أرقام عن خسائر العدو، وأقوم أنا بإذاعتها فرحاً مستبشراً متحمساً. في مساء يوم الخامس من يونيو زارني ضابط كان زميلاً لي بالمرحلة الثانوية، وقال لي ساخراً: (أنت بتهبب إيه، دا الجيش الإسرائيلي يمكن أن يدخل عليك بعد قليل هنا في الإذاعة). كانت صدمتي كبيرة ولم أصدق ما سمعته منه. اتصلت بالقيادة وسألتهم بصراحة عن حقيقة الوضع، وكان الجواب، استمر كما أنت للحفاظ على معنويات الناس».

عداد السنوات لا يتوقف، وكأنه نبضُ قلب الزمن. لكن محطات الألم والحزن التي تقصف أبراج الأحلام، لها عدادها الخاص. إنه آلة لا يمكن لأحد أن يقترب من شيفرة سرها. لقد رحل من اطلقوا صافرات صارت ناقوساً مزمناً في داخلنا، وسكن فينا.