لم يأت قرار مجلس محافظي "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" إدانة إيران من عدم. فقد صدر بسبب عدم تعاونها مع الوكالة ومواصلتها مخالفة بنود الاتفاق النووي لعام 2015، من خلال الإصرار على تخصيب اليورانيوم بنسب تفوق المسموح به في الاتفاق النووي بأكثر من 20 مرة على الأقل. هذه نسبة تلامس مستوى التخصيب للأغراض العسكرية. بمعنى آخر، إنه تخصيب يهدف في النهاية إلى تخزين كميات كبيرة من اليورانيوم تتراوح نسبة تخصيبها بين 65 و85 في المئة، ما يعكس نية واضحة لعسكرة البرنامج النووي الذي تعلن طهران أنه مخصص للأغراض السلمية.

منذ عام 2018 لم تعد طهران قادرة على نفي وجود برنامج نووي عسكري سري يتوسع في ظل البرنامج النووي الرسمي. ففي ذلك العام قام "الموساد" الإسرائيلي بعملية استخبارية في قلب إيران تمكن خلالها من وضع يده على معظم ملفات البرنامج النووي الإيراني العسكري السري الذي كان يديره العالم النووي محسن فخري زاده الذي اغتيل بعدها بعامين في قلب طهران، في عملية نُسبت إلى "الموساد".

ورغم إصدار المرشد الأعلى علي خامنئي فتوى عام 2000 حرّم فيها صنع أسلحة نووية، ثم أعاد تأكيدها رسمياً عام 2019، فإن العالم يتعامل مع برنامج إيران النووي، والأهم مع طموحاتها النووية، على أنها ذات بعد عسكري. والسبب في ذلك طبيعة النظام التوسعية في الشرق الأوسط التي تنهج منذ ولادة الجمهورية الإسلامية عام 1979 وسائل عسكرية وأمنية من أجل اختراق المجتمعات العربية، وخوض مواجهات متعددة الوجه مع الغرب عموماً.

ويتعامل المجتمع الدولي مع إيران بوصفها قوة إقليمية تعمل بكل ما أوتيت من إمكانات من أجل الدخول في نادي الدول النووية التي تمتلك سلاحاً نووياً. والمجتمع الدولي لا يتوقف أبداً عند فتوى المرشد، وكل الدول الغربية تعتبرها جزءاً من سياسة إخفاء المشروع النووي الحقيقي لإيران، وهو المشروع العسكري الذي شهد ثلاثة عقود من الكر والفر بين إيران و"الوكالة الدولية للطاقة الذرية" ومعها المجتمع الدولي حتى عام 2015 عندما جرى الاتفاق على "خطة العمل الشاملة المشتركة" في مدينة لوزان السويسرية، أملاً في أن يؤدي الأمر إلى ضبط طموحات إيران النووية.

لكن إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الخروج من الاتفاق عام 2018 وإعادة تطبيق عقوبات صارمة ضد إيران، غيّرا مجرى الأحداث واضعين إيران تحت ثقل ضغط كبير. لكن الأخيرة استغلت الأمر لكي تهيئ نفسها لمرحلة التملص من الالتزامات بشأن برنامجها النووي. وحانت الفرصة مع دخول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض عام 2021 لينقلب الوضع رأساً على عقب. وفشلت في ما بعد المفاوضات التي أطلقت بين إيران ومجموعة "5 + 1" الدولية في فيينا بين نيسان (أبريل) 2021 وتشرين الثاني (نوفمبر) 2022 في إعادة ضبط طموحات إيران النووية على قاعدة العودة إلى الاتفاق النووي، والالتزام به والعمل به والتفاوض حول ملاحق جديدة لإطالة أمد الاتفاق الذي ينتهي بحلول 2030.

بالعودة إلى البيان الذي صدر عن اجتماع مجلس محافظي "الوكالة الدولية للطاقة الذرية"، فقد جرى تمريره بعدما وافقت الولايات المتحدة على الانضمام إلى الثلاثي الأوروبي (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا)، الذي كان يحاول إصدار بيان إدانة لإيران في آخر اجتماع للمجلس بداية العام الجاري. لكن موقف واشنطن المعارض حال دون صدور البيان آنذاك. وكان من اللافت أن تواصل إدارة الرئيس جو بايدن التمسك بسياسة التساهل مع إيران رغم تدخل الأخيرة مباشرة في حرب أوكرانيا إلى جانب روسيا عبر تسليمها مئات المسيرات الانقضاضية التي استخدمت في الحرب، ورغم قيام إيران بإدارة حرب منخفضة الوتيرة في الشرق الأوسط ضد مصالح الولايات المتحدة على هامش حرب غزة بين إسرائيل وحركة "حماس".

تشير كل التصريحات والمواقف العلنية للدول الغربية وبمختلف الأشكال إلى أن إيران تسعى إلى إنتاج قنبلتها النووية الأولى بأسرع وقت ممكن. وتتبنى معظم دول المنطقة هذه القراءة من دون أن تعلنها جهاراً، إنما تتصرف على قاعدة أن إيران لم يعد لديها من هدف أسمى من تطوير السلاح النووي الذي سيمنح النظام نوعاً من المنعة والحصانة التي يحتاجها لمواجهة التحديات الداخلية التي تجتاح البلاد على أكثر من صعيد.

ومع تنامي التوتر في منطقة الشرق الأوسط بين إسرائيل وإيران، تزداد المخاوف من احتمال اقتراب موعد الصدام الكبير بين القوتين الإقليميتين تزامناً مع تقدم البرنامج النووي العسكري الإيراني. وقد تشكل حرب غزة وتداعياتها الإقليمية الخطيرة دافعاً أكبر لتفجير أزمة الاستحقاق النووي العسكري الإيراني.

وللدلالة إلى أن عدداً من دول الإقليم الرئيسية تقرأ البرنامج النووي الإيراني المعلن على أنه واجهة للبرنامج العسكري السري، فإن القوى الإقليمية في منطقة الخليج سارعت في العقد الأخير إلى إطلاق برامج نووية لأغراض سلمية. والمهم هنا أن تبني لنفسها قاعدة معرفية علمية نووية للمرحلة المقبلة. ومن المهم التذكير بكلام ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في مقابلته قبل سنة على قناة "فوكس نيوز" الأميركية الذي لمّح فيه إلى أنه إذا أنتجت إيران سلاحاً نووياً فإن المملكة العربية السعودية ستستحوذ من جهتها على سلاح نووي بغرض الحفاظ على التوازن الاستراتيجي في المنطقة.

في هذه الأثناء يبدو أن جميع الفرقاء الدوليين مقتنعون بأن إيران تواصل طريقها بخطى سريعة نحو القنبلة النووية.