لم تعد جبهة جنوب لبنان مع إسرائيل تسمّى كما يتم التداول بها، جبهة "إسناد" لحركة "حماس" حتى التوصل إلى وقف لإطلاق النار في قطاع غزة، بل أضحت حالة منفصلة بدينامية عسكرية تضعها على مفترق طرق. ولم يعد "حزب الله" يكتفي بتسجيل نقاط تكتيكية من ناحية الاستنزاف لقدرات إسرائيل، لا سيما عبر نوعية العمليات العسكرية والأهداف والمسيّرات، بل أدخل الحزب في المعادلة أيضاً - بدعم من إيران - صواريخ مضادة للطائرات تقيّد التفوّق الجوي الإسرائيلي فوق لبنان.

تمكّن "حزب الله" من فرض معادلة أن الجبهة الجنوبية لن تهدأ حتى سريان الهدنة في غزة، على الرغم من التهديدات الإسرائيلية والتحذيرات الدولية. لكن التوازن قائم في تكلفة إدارة هذا الردع. إذا صحت التقديرات، هناك عدد متقارب من عناصر "حزب الله" والجنود الإسرائيليين على جانبي الحدود، كما العدد متقارب من ناحية النازحين من المناطق الحدودية. التكلفة التي ستتكبدها إسرائيل عند خوض المواجهة وإيواء النازحين أكبر كثيراً من تكلفة "حزب الله"، لكنها تحصل على دعم أميركي. في المقابل، تفرض مسألة النازحين ضغوطاً اقتصادية واجتماعية إضافية على واقع لبناني متخم بالتحديات.

طبعاً، لا يمكن تجاهل العوامل الأخرى. نفوذ العسكر يتضاءل في الحكومة الإسرائيلية، لا سيما بعد الخروج المتوقع للوزير في مجلس الحرب بيني غانتس، ما يعني أن حكومة نتنياهو ستكون أكثر انسجاماً من ناحية هيمنة اليمين المتطرف، كما ستزداد الضغوط الخارجية عليها، والتظاهرات داخل إسرائيل. كل هذا سيؤثر في حسابات نتنياهو الذي قد يؤجل الموافقة على وقف إطلاق النار في غزة. وإذا رضخ لضغوط الهدنة في غزة، فقد يصرف الأنظار إلى الجبهة الشمالية مع لبنان، لا سيما في ظل استطلاعات تشير إلى تأييد أغلبية إسرائيلية لحرب مع "حزب الله".

في حسابات "حزب الله"، إسرائيل غير قادرة على فتح جبهتين، وهناك ضغوط أميركية تلجمها. لكنْ، هناك احتمال توجيه ضربات موضعية إسرائيلية تُربك "حزب الله"، وتضعه أمام خيار المواجهة المفتوحة. عمليات "حزب الله" النوعية تبدو كأنها رسائل ردعية لإسرائيل لثنيها عن الدخول في حرب، عبر عرض عضلات لقدرات قتالية جديدة.

يزور قائد الجيش اللبناني العماد جوزف عون واشنطن هذا الأسبوع، لكن لا دور للجيش اللبناني في هذه المرحلة، ما دام "حزب الله" يحتكر استخدام العنف على الحدود، وما دام لا وقف لإطلاق النار في غزة، وما دام لا اتفاق حدودياً بين لبنان وإسرائيل، يأخذ في الحسبان تحوّل قواعد الاشتباك منذ 8 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.

في المقابل، "حزب الله" واقع أيضاً في معضلة صعبة. لا يبدو أن هناك تأييداً شعبياً لحرب مع إسرائيل، حتى في قاعدته الشعبية، في ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية. فلبنان من دون رئيس، ومع حكومة تصريف أعمال سياستها الخارجية مُرتبكة في التعامل مع المبادرات الأميركية لوقف مستويات المواجهة على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية. في حسابات إسرائيل، يمكن الضغط الدولي على لبنان وحكومته الهشة أن يقيّد تحركات "حزب الله" الحدودية، لكن هذا الأمر لم ينجح نظراً لطبيعة الدعم الإيراني لـ"حزب الله" من دون رادع داخلي أو خارجي.

يستعد نتنياهو الذي يقود دولة مارقة أُدرجت في اللائحة السوداء الدولية، لإلقاء خطاب أمام الكونغرس الأميركي في 24 تموز (يوليو) المقبل، وليس واضحاً بعد إذا سيوافق على وقف إطلاق النار قبل سفره إلى واشنطن، وكيف ستكون علاقته بالرئيس الأميركي جو بايدن في الأسابيع التي تسبق الزيارة.

في هذه الحال، ليست واضحة أيضاً مسببات قرار "حزب الله" الاستمرار في الوتيرة الحالية للعمليات العسكرية. فالجيش الإسرائيلي سحب أغلبية جنوده من غزة تحت ضغط عمليات حركة "حماس" لتفادي سقوط قتلى في صفوفه، وإدارة بايدن قيّدت القدرة الإسرائيلية على استخدام تفوقها الجوي في قطاع غزة، لا سيما في استهداف المدنيين. بالتالي، ثمة تفاوض مستمر ومضبوط بين "حماس" وإسرائيل، بالنار كما بالوساطات، ولم يعد الأمر يحتاج إلى جبهات "إسناد" كما كانت الحال قبل أشهر، عند اتباع إسرائيل سياسة "الأرض المحروقة" في غزة.

إذا كان الهدف استمرار الضغط الإيراني للتوصل إلى هدنة، فهذا يمكن إيصاله في وتيرة أقل من العمليات عند الضرورة. وإذا الهدف ردع إسرائيل، فالرسالة وصلت والإمعان في إرسالها لا يخدم مصالح لبنان، ولا حتى "حزب الله" نفسه. وتحويل الحدود الجنوبية من جبهة "إسناد" إلى جبهة "مواجهة" في ظل الأوضاع الداخلية والإقليمية مغامرةٌ، لا جدوى استراتيجياً منها في هذه المرحلة.