عادل درويش

أحداث الأسبوع الثاني من الانتخابات البريطانية، تقوي ظني بأنها من أغرب الانتخابات ليس فقط لمفارقات الأسبوع الأول الساخرة، لكن أيضاً للمفاجآت.

وكان تقديرنا أن مفاجأة رئيس الحكومة ريشي سوناك بموعد الانتخابات كانت سبباً لغرابتها، فمثلاً دخلت الحملة الانتخابية أسبوعها الثالث، ولم يعلن أي حزب «المانيفستو» الانتخابي.

مفاجأة سوناك الجديدة، سجّلَ فيها هدفاً ضد فريقه، رغم أنّ أداءه كان أفضل قليلاً من منافسه الزعيم العمالي كير ستارمر في أول مناظرة تلفزيونية بينهما، فمفاجأته أحرجته مع الشرائح الانتخابية التي يعتمد على أصواتها.

الخميس حلّت الذكرى الثمانون ليوم تاريخي ليس فقط في بريطانيا، بل في منظومة العالم الحر، وربما الذكرى الأهم لأجيال كبار السن، وهم القاعدة الانتخابية للمحافظين.

«د. داي» السادس من يونيو (حزيران) 1944 كان يوم إنزال قوات الحلفاء على شواطئ نورماندي، وبداية تحرير أوروبا من الاحتلال النازي. حضر سوناك - احتفال الصباح المشترك مع فرنسا بجانب النصب التذكاري، ومقابر الجنود الذين سقطوا في ذلك اليوم - مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وزعماء أوروبيين، وبحضور الملك تشارلز، لكنه غاب عن الاحتفال الدولي بعد الظهر بحضور الرئيس الأميركي جو بايدن، والمستشار الألماني أولاف شولتس وكبار زعماء العالم، وترك تمثيل بريطانيا لوزير الخارجية رئيس الوزراء الأسبق اللورد كاميرون.

غادر سوناك فرنسا إلى بريطانيا لتسجيل برنامج تلفزيوني يدافع فيه عن اتهامات المعارضة له بالكذب في ادعاءاته أن العمال سيثقلون كاهل كل بيت بألفي جنيه ضرائب.

العمال لم يصدقوا حظهم وكأنهم كسبوا اليانصيب! زعيمهم، ستارمر، ملأ الفراغ الذي تركه سوناك في نورماندي، فظهر أمام الكاميرات مع زعماء العالم، وكأنه رئيس حكومة سيتعامل معهم بعد أربعة أسابيع إذا تحققت الاستطلاعات بفوز حزبه في الانتخابات.

اعتذر سوناك فجر الجمعة في تغريدة مطولة على منصة «إكس»، نادماً على مغادرة نورماندي مبكراً واتخاذ قرار غير حكيم. كان أقوى الانتقادات لسوناك هو افتقاده الذكاء الحساس الذي كشفته مناسبة يقدسها كبار السن ومؤيدو المحافظين. وبجانب غيابه عن صور أهميتها لا تعوض، والصورة بألف مقال، فإنه أيضاً كشف عن كعب أخيله، فرغم ذكائه وبراعته في الاقتصاد والمال والإدارة، فإنه يفتقد قدرة الزعيم القوي على اتخاذ القرار اللحظي لتعديل الأولويات.

فأجندة ترتيب مناسبة مثل اللقاء العالمي على شواطئ نورماندي جهّزت منذ أشهر طويلة، وحضر ذلك قدماء المحاربين، وهناك من كانت أعمارهم تناهز المائة، وستكون هذه المناسبة بالنسبة لأكثرهم المناسبة الأخيرة التي يتذكَّرون فيها رفاق السلاح الذين اختلطت دماؤهم بعرقهم ومياه بحر المانش. سوناك أكد شكوك الأجيال الأكبر سناً في الأجيال الشابة التي تعود برودة مشاعرها تجاه الجيل الذي ضحى في الحرب العالمية من أجلها، لجهلها بالتاريخ، وفقدان الذاكرة القومية الجماعية. قدماء المحاربين البريطانيين، معظمهم يجلس على كراسي بعجلات، حياهم الملك تشارلز وصافحهم واحداً واحداً؛ والرئيس ماكرون منحهم أوسمة، وأطفال المدارس الفرنسية قدموا لهم وروداً بيضاء؛ اعترافاً بتضحياتهم في تحرير فرنسا في 1944. كل هذا في غياب سوناك!

فلماذا جعل تسجيل لقاء مع التلفزيون المستقل أولوية على مناسبة مقدسة للقاعدة الشعبية للمحافظين؟

السبب مفاجأة أخرى من بطل «بريكست»، رئيس حزب «الإصلاح» الشعبوي نايجل فاراج، بإعلانه غير المتوقع ترشيح نفسه في دائرة محافظة، إذ إنَّ ناخبيها تراجع تأييدهم للمحافظين بسبب تزايد الهجرة التي جعلها فاراج قضية حزب «الإصلاح» الانتخابية. ورأى سوناك ومستشاروه ألا يترك الساحة شاغرة للزعيم اليميني.

الليدي مارغريت ثاتشر قالت يوماً إن «المستشارين يقدمون المشورة فقط، والزعيم السياسي يتخذ القرار». المسؤول يجد حوله نصائح واقتراحات من مستشاريه بترتيب الأوليات، وكل واحد في تخصصه بالطبع يدفع بمجاله بوصفه أولوية، والحكمة الثاتشرية للزعيم القوي في تحديد الأولوية للمناسبة ولجمهور الناخبين. مجموعة المستشارين الشباب حول سوناك من جيل التواصل الاجتماعي، والإلكترونيات، والساوند بايت، الذين أولوياتهم تختلف عن أولويات الأجيال التي تقدس مناسبة وفعاليات واحتفاليات هذا اليوم التاريخي.

الفيلم الملحمي الذي سجل أحداث اليوم بطول ثلاث ساعات كان عام 1962 «اليوم الأطول» عن كتاب «اليوم الأطول: اليوم - د 1944»، للصحافي ومؤلف كتب توثيق الحروب الآيرلندي كورنيليوس ريان (1920 - 1974)، وربما تتحول ذكراه الثمانون إلى «أطول يوم في تاريخ الانتخابات» لن ينساه سوناك، وهو ينظر لمنصة الصحافيين يدونون مسودة التاريخ المعاصر من مقعده في صفوف المعارضة في الدورة البرلمانية المقبلة.