توجد بلاد بين جبال الهملايا تسمى مملكة بوتان، تتمتع بطبيعة ساحرة وخلابة، قلّ أن تجد نظيراً لها في العالم، أو كما يقال هي طبيعة بكر، تعتبر مقصداً لكل سائح ينشد الراحة، ويريد التمتع بحياة من نوع جديد تملؤها الأجواء الصحية النقية، لكن هذه المملكة الصغيرة، تفرض رسوماً على تأشيرات الدخول وزيارتها مبالغاً فيها، حيث تعتبر مرتفعة وفق المقاييس العالمية، وتتجاوز قدرة معظم السياح في العالم، وهذا ما أدى لتدني أعداد الزائرين، وبالتالي محدودية السياح الذين يزورون هذه المملكة سنوياً، هذه الرسوم الباهظة المفروضة، تعني أن من سيزور هذه البلاد هم نخبة من السياح، وأقصد تحديداً الأثرياء، وهؤلاء لديهم وجهات كثيرة ومتنوعة، وقد لا تكون مملكة بوتان واحداً من هذه الخيارات.

الغريب هو اتخاذ مثل هذا الإجراء في وجه مورد اقتصادي يسيل له لعاب أي بلد في العالم، خاصة إذا عرفنا أن موارد هذه المملكة شحيحة، لكن وكما يقال في المثل الشهير «إذا عرف السبب بطل العجب»، فالسبب هو التوجه الحكومي والشعبي للمحافظة على كنوز هذه البيئة الطبيعية، وعدم تعريضها للأذى على أيدي السياح الذين قد يقومون بأعمال مؤذية للطبيعة البكر، مثل الشواء أو الصيد للحيوانات، أو اقتلاع الأشجار لتوفير الخشب لإشعال النار، وغيرها من الممارسات التي تأتي في سياق رياضي وترفيهي.

كما يتطلب استقبال أفواج من السياح بشكل يومي إقامة المنتجعات والفنادق والمدن الترفيهية، وهذه جميعها ستكون على حساب المساحات الخضراء، وعلى حساب الغابات المعمرة، حيث تعتبر مثل هذه المشاريع بالنسبة لهم كارثة على نظامهم الحياتي الذي توارثوه طوال عقود من الآباء والأجداد، لكن الذي سيدهش بشكل واضح أن هذه المملكة تعمل على سياسة تسمى «مستوى السعادة الوطنية الإجمالية»، ولذا قاموا بتأسيس لجنة مهمتها إدارة مستوى السعادة، ويرأس هذه اللجنة رئيس الوزراء، ومن مهامها أيضاً الالتقاء بالناس وسماع مقترحاتهم وآرائهم ووجهات نظرهم، ونتيجة لهذا تصدر قرارات غير مسبوقة مثل حظر ومنع بيع التبغ (الدخان)، والمواطن الذي يريد التدخين عليه أن يقوم بالشراء من الهند المجاورة، على أن يكون للاستهلاك الشخصي وليس للبيع أو للمتاجرة، كذلك لا بد أن يسدد ضريبة كلما قام بالتدخين في أي مكان عام.

والذي أريد الوصول له، أن هذه المملكة تتمتع فعلاً بدرجة متقدمة على مستوى العالم في مجال السعادة، ليس لأنها تعيش رغداً اقتصادياً كبيراً أو ارتفاعاً في معدلات التنمية، وليس لأن حكومتها توفر كافة المتطلبات لشعبها، بل لأن هناك انسجاماً وخططاً تكفل الحياة الكريمة لكل واحد من أفرادها، ولأن الرؤية لديهم واضحة فيما يريدون تحقيقه في المستقبل، فضلاً عن هذا تمكنوا من الارتفاع عن الحاجة المادية، والتي أثبتوا أنها ليست بالضرورة هي مورد السعادة أو سببها، تجربة مملكة بوتان، جديرة بالتعليم لعدد من البلاد العربية، فضلاً عن البعض من الشعوب الأخرى لفهم معنى الراحة والسعادة والفرحة الحقيقية.

وكما قال عالم الفيزياء الشهير الدكتور وليام فيليبس، والذي حاز جائزة نوبل في عام 1997م: «إن أسعد الناس هم من يفكرون في أكثر الأفكار متعة»، ولعل هذا ما فعله شعب مملكة بوتان، وهو التفكير في إدخال كل بهجة وفرحة، والابتعاد عن الروتين والمنغصات والحياة المعقدة، لذا نشاهدهم تميزوا في نظرتهم وتعاطيهم مع الحياة المعاصرة الحديثة بشكل مختلف، وآثروا المحافظة على وهج وقوة ما بين يديهم؛ لأنه يجلب لهم الحبور والمتعة، وهم يفعلون ويتوجهون نحو هذه السياسة التي لم تتم بقسوة، ولم يمنعوا وسائل الاتصال والتقنيات الحديثة من الوصول للسكان والاستخدام لمن يرغب، كما لم يحدوا من التعليم، وفتحوا المستشفيات، ولديهم نظام اجتماعي متكافل وقوي، قد يكون ما ساعدهم على النجاح، هو قلة عدد شعب هذه المملكة، وتقارب مدنهم وقراهم.

لكن لماذا تمكنوا من مثل هذا التوجه المنافي لكل الدول في العالم، بل وحتى الدول القريبة منهم، وآثروا كل هذه العزلة، وسن كل هذه القوانين للمحافظة على بيئتهم، لعل كلمات العالم الشهير ألبرت أينشتاين، تحمل بعض الدلالات، ولن أقول بعض الإجابات، لأنه لا توجد إجابة فصل أو واضحة، قال أينشتاين: «انظر بعمق إلى الطبيعة وبعد ذلك سوف تفهم كل شيء أفضل»، ولعل هذا الشعب في مملكة بوتان، نظر نحو طبيعته الخلابة الساحرة، وفهم شيء أفضل وأكثر جوهرية وعمقاً، مما نعتقده نحن ونحسبه.