يذكر الإمام تاج الدين السبكي أنّ الشيخ صفي الدين الهندي الفقيه كان رديء الخط للغاية لدرجة أنْ أصبح مادةً لتندّر أقرانه، فحدث أنْ ذهب مرة لسوق الكتب فوجد كتاباً بخطٍ أقبح من خطه، فاشتراه وبالغ في ثمنه بأكثر مما يستحق، كل ذلك لكي يريه لمن يسخرون من رداءة خطه بأنّ هناك من هو أسوأ وأقبح منه، يقول الشيخ صفي الدين الهندي: «فلما عُدتُ للبيت وجدتُ أنّ هذا الكتاب بخطي القديم»!

ليست القضية هنا قضية «المنحوس منحوس»، وليس المراد إيراد طُرفةٍ لجلب الضحكات، ولكن هي مدخل مهم لإيصال رسالة يفهمها المتيقّظون بين السطور، فالمقصود أنّ النهايات تُعرَف ببداياتها، ومآل الإنسان يُدرَك من المسار الذي ارتضاه لنفسه واختاره، ولئن كان بالإمكان تدارك المهارات الناقصة كسوء الخط في قِصّتنا وذلك من خلال التدريب المستمر لدى خبيرٍ في الكتابة، إلا أنّ الوضع يبدو معقداً وربما مُتعسّراً وعصيّاً على التعديل عندما يتعلق الأمر بالفكر الذي انتقاه الإنسان لنفسه وأفنى في سبيل تأييده وتلميعه سنوات عمره وأصبح التراجع عنه مسألة كرامة لا تُقبَل!

لا خطأ في أن ينتصر الإنسان لفكرته ما دامت صالحة ومعقولة، ولكن الخلل يحدث عندما يسعى هذا الإنسان إلى مهاجمة الآخر دون هوادة لتغطية قصورٍ ما لديه، ويبدأ في تأليب الدنيا عليه ووَصْمِه بأمورٍ في أغلب الأحوال غير موجودة، ولكنها طريقة الفاشل لتمرير فشله، وفيها بيانٌ جليّ على سقوط ما لديه لفقدانه مروءة الخُلُق وأدب الاختلاف مع الآخر، وهو حتى في هذه سيُحاول إلصاق ما به في خصمه!

خرج قبل فترة مركزٌ للطعن في الإسلام في دولة عربية بدعوى تجديد الإسلام، ويبدو أنّ الإسلام يؤرق ليلهم على الدوام فلا يكادون يجدون أمراً يتحدثون عنه إلا تجديد خطابه أو إبراز «نسخته» الوسطية أو إنقاذه من براثن المتنطعين والمتشددين، والمضحك أنّ أصحاب هذا المركز لهم تاريخ طويل مع الإسلام، لكنّه تاريخ بائس بحماسة مسعورة في الهجوم عليه والطعن فيه ديناً ونبياً ورموزاً، ولا يكاد يُخطئ عفنهم الفكري وكرههم البيّن بصر عاقل أو عقل مُتبصِّر، فهم أشبه بمن يريد أن يُقنِع الراعي بأنّ الذئاب الجائعة هي من ستحمي القطيع في البريّة!

اللافت في هؤلاء هو جرأتهم في الكذب والمجازفة في طرح فرضيات لا يسندها أي دليل، بل في الغالب الدليل يكون ضدها، ويبدو أن حُلُمهم قد أصبح كابوساً وهم يرون سيلاً جارفاً من الردود العلمية الرصينة لتفنيد أكاذيبهم وكشف ضحالة ما لديهم من معرفة على رؤوس الأشهاد وعلى أغلب منصات التواصل الاجتماعي، وليت شعري أي معرفة عند من لا يستطيع قراءة عنوان كتاب بشكل سليم؟ وأي علم عند من تتحدث عن رجلين وهي تظنهما من الإناث؟ وأي مصداقية عند من أُقيمت عليه الحُجّة بسرقة روايات كاملة من أصحابها ونسبتها لنفسه وفوق ذلك فهو لا يستطيع إكمال جملة واحدة فقط باللغة الفصحى؟ وأي حَميّة على دين عند فاشلٍ ينكر وجوب الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبأن اليهود والنصارى غير مطالبين بدعوة الإسلام؟

سيذهب هذا المركز كما ذهب أمثاله من قبله وكما سيذهب مَن بعده، فهذه الدعوات هي محطات «تصفية» على مسار هذا الدين طيلة تاريخه، تنفض عنه الغبار بدفع أبنائه بل وحتى خصومه للبحث عن دقائقه وخباياه فيعود شاباً، ريّاناً، وضّاءً، وتسقط الأقنعة عن أولئك المذبذبين الذين كانوا ينتظرون الفرص للنيل منه والطعن فيه بترديد ذات الأكاذيب التي عجنها وخبزها المستشرقون قبلهم، فهؤلاء من فشلهم لا يستطيعون الإتيان بجديد، بل هم يقرأون ما كتبه جولدتسيهر وشاخت وبرنارد لويس وبقية الحاقدين على الإسلام ثم يدّعون بأنهم هم مَن أتى بتلك الطعون!

إن الديكور الفخم لن يُقرّ باطلاً، والمونتاج السينمائي «المتعوب عليه» لن يواري سوءة الطعون الكاذبة، والإعلانات المدفوعة للمشاهدات لن ترفع ساقطاً ولن تسقط رفيعاً، هي فرصة لتبيان عظمة هذا الدين وكشف كنوزه وفهم تعاليمه الربانية، وهي محطات نكتشف فيها الأعداء المندسين لهذه الأمّة ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾.