تزداد حدة التجاذبات بين شركات النفط ونشطاء البيئة، وهو ما أدى إلى حدوث تحول في طبيعة هذه التجاذبات بعد أن تجاوز نشطاء البيئة الخطوطَ الحمراء بطرح مواقف وآراء متطرفة يمكن أن تجد لها انعكاسات سلبية كبيرة على الاقتصاد العالمي وعلى المستويات المعيشية وتوفير الكثير من السلع والخدمات، بما فيها الغذائية.

وبعد أن استجابت شركات النفط للعديد من مطالب نشطاء البيئة ووضعت خططاً وبرامج جديدة واعتمدت استثمارات كبيرةً للتحول نحو الطاقة المتجددة والنظيفة، توقعت أن تجد هذه الإجراءات والتوجهات ترحيباً من جماعات الضغط البيئية، إلا أن ما حدث هو العكس، إذ زادت هذه المجموعات من ضغوطها وطرحت شعارات متطرفة، من بينها «ستوب أويل» (Stop oil) أو أوقفوا النفط!

لقد وضعت مثل تلك الشعارات شركات النفط في زاوية صعبة، في الوقت الذي تهدد الاقتصاد العالمي بكارثة حقيقية، فإذا توقف إنتاج النفط، كما يطالب بعض أنصار البيئة، فإن الحياة بمجملها على كوكب الأرض ستصاب بالشلل، إذ ستتوقف الكثيرُ من المصانع ووسائل النقل، كالسيارات والطائرات والسفن، مما يعني توقف التجارة وفقدان ملايين الوظائف وانهيار اقتصادات الدول وغيرها من التداعيات الخطيرة.

ولذا تخلّت شركات النفط عن «سياسة المداراة» لهذه التوجهات غير العملية، وبدلاً من سياسة الدفاع، بدأت في انتهاج سياسة هجومية لحماية مصالحها ولتفادي تعرض الاقتصاد العالمي للانهيار. وعلى سبيل المثال، فقد اتخذت شركة «شل» بعضَ الإجراءات إثر هجمات قام بها نشطاء البيئة. أما شركة «أكسون موبيل»، فرفعت قضيةً على إحدى جماعات البيئة التي استحوذت على حصة ضئيلة من أسهم الشركة من أجل دعم أجندتها ومحاولة تمرير قرارات بالجمعية العمومية، بما يتعارض مع مصلحة مساهمي الشركة وعملائها واستقرار الأسواق، وهو ما يحدث لأول مرة، بمعنى أن التجاذبات خرجت عن نطاقها السابق لتدخل مرحلةَ الهجوم والهجوم المضاد.

والغريب في الأمر أن بعض هذه المجموعات البيئية في الوقت الذي تدعو فيه إلى وقف أنشطة إنتاج الوقود الأحفوري، فإن أعضاءها يستخدمون السيارات ويسافرون بالطائرات والسفن.. في تناقض واضح بين أفكارهم وأعمالهم! وذلك لسبب بسيط، وهو أن ما يدعون إليه مجرد «طوباوية» بعيدة عن الواقع ولا يمكن تحقيقها عملياً.

وبالتأكيد، فإن الاهتمام بالبيئة والحد من التلوث، هو مطلب كافة البشر لحماية الأرض، إذ لا يختلف أحد مع هذا التوجه والذي سعى إليه الجميع، بما في ذلك دول وشركات النفط، إلا أن تحقيقه يتطلب توجهات عملية مدروسة بعناية، بحيث تتم عملية الإحلال بصورة تدريجية وبمرونة للمحافظة على البيئة ووقف التدهور المناخي من جهة، وللمحافظة على الاقتصاد العالمي ومستويات المعيشة وتوفير متطلبات الحياة، وبالأخص الغذائية، من جهة أخرى.

وكما يقال «إذا أردت أن تطاع فاطلب المستطاع»، وهو المبدأ الذي على نشطاء البيئة انتهاجه في مطالبهم، كي تصبح أكثر مطابَقةً للواقع ولقدرات الاقتصاد العالمي على تحمل عملية التحول التدريجي نحو الطاقة النظيفة من خلال الاختراعات الجديدة واستخدام التكنولوجيا المتطورة وتخفيض تكاليف الإنتاج العالية في الوقت الحاضر، والتي تفوق قدرات الكثير من الدول ولا يمكنها تحملها، مما قد يتسبب في تدهور مستويات المعيشة وعدم القدرة على التأقلم في ظل غياب مصادر الطاقة التقليدية، كالنفط والغاز.

المطلوب إذن هو أن ينزل نشطاء البيئة من أبراجهم العاجية العالية إلى الواقع الحقيقي كما هو، وأن يطرحوا برامج عملية تدرجية، خصوصاً أن دول وشركات النفط أعلنت أكثر من مرة استعدادَها للتعاون معهم، بل وتمويل عملية التحول نحو الطاقة النظيفة، مما يعني أن التعاون سيساهم في انتقال العالم بصورة سليمة وآمنة نحو عالم أقل تلوثاً وأكثر نظافة، وفي نفس الوقت المحافظة على استقرار وازدهار الاقتصاد العالمي وتوفير متطلبات الحياة الأساسية للبشرية.