يذكر الناقد رجاء النقّاش أنّه قرأ مخطوطة مسرحية شعرية كتبها شاعر شاب صغير السن، فأحسّ، بعد قراءتها، أنه، وبدون مبالغة، أمام موهبة كبيرة فذّة، لكنه شعر، في الوقت ذاته، بأنها موهبة مبعثرة، ضائعة، حيث تنقص صاحبها الثقافة المسرحية الضرورية، ولا يملك موضوعاً مناسباً، فالنص لا يتعدى خاطرة خطرت في ذهن الشاب، حوّلها إلى نصّ مسرحي.

قبل رجاء النقّاش كان طه حسين قد قال «إن الأديب الذي لا يحسن إلا الأدب محدود الثقافة، والأديب الذي يستطيع المشاركة في غير الأدب هو واسع الثقافة وعميقها»، وقال أيضاً: «إن المثقف الجدير بهذه الصفة تتجدد ثقافته في غير انقطاع، وكلما اتسعت ثقافة الإنسان عظمت تبعته أمام بيئته ووطنه ووجب عليه أن ينفع الناس بكل ما حصّل».

الرجلان، طه حسين والنقّاش، يقفان عند موضوع مهم، هو أن الموهبة، مهما علا شأنها، غير كافية لأن تجعل من صاحبها أديباً أو فناناً مميزاً، لأنه تنقصه الثقافة والمعرفة، وهو الأمر الذي حمل رجاء النقاش على أن يستهجن قولاً لمحمود حسن إسماعيل جاء فيه: «أنا لا أعترف أبداً بأي شعر ترتبط جذوره بثقافة الكتب، لا بد أن ينبع الشعر من التجارب النفسية المستقلة، من انصهارات الشاعر في العالم الواقعي الذي يعيش فيه».

وإذا كان محمود حسن إسماعيل محقّاً فيما قاله حول أهمية أن ينبع الشعر من تجارب الشاعر، لكنه لم يكن محقاً في نفي أهمية الثقافة، وازدراء (ثقافة الكتب). تجارب وخبرات المبدع مهمّة في تكوينه، لكن التجارب، مهما كانت غنيّة، بدون الثقافة والمعرفة تبقى ناقصة، فالثقافة بالذات هي ما يضع التجارب في سياق إبداعي وفكري متسق، يُعلي من مكانة المبدع ومن قيمة ما يبدع، وفي حال الشعر فإن قول محمود حسن إسماعيل يندرج، وفق منظور رجاء النقاش، في خانة الرأي الذي ينظر أصحابه إلى الشعر بوصفه «نوعاً من الزينة، والتسلية التي يلجأ إليها الإنسان في حياته الاجتماعية»، وأعطى مثالاً ملموساً على الرأي النقيض بكاتب كبير مثل شكسبير الذي «كان يقرأ كثيراً من كتب التاريخ قراءة عميقة، وقد ذابت هذه الثقافة التاريخية الكبيرة في موهبته»، فصنعت منه ذلك الكاتب الكبير الباقي على مدار قرون.

الحقّ أن طه حسين أكدّ أهمية الموهبة، وهو الذي رأى أنّه «لا يلزم الأديب أو المثقف، لكي يعدّ أديباً أو مثقفاً، أن يتخرج في كلية الآداب في الجامعة، بل إننا نعرف أسماء نوابغ في الأدب لم يتخرجوا في أي كلية». لكن علينا قراءة ما أضافه: «الأدب تلزمه الموهبة أولاً ثم تأتي المعرفة لتصقل هذه الموهبة وتُطوّرها».