الخميس الماضى نشرت مقالًا عن الاحتفال بمرور عشرين عاما على تأسيس جريدة «المصرى اليوم»، واعتبرت أنه كان احتفالا بالصحافة المستقلة.
بعض الأصدقاء علقوا على ما كتبته بأن وصف الاستقلال لم يكن دقيقا، مستندين إلى أن الجريدة المحتفى بها لم تعد مستقلة كما كانت سابقا.
وكتب الصديق الدكتور «مصطفى كامل السيد» على صفحته الشخصية أن: «المصرى اليوم فى سنة 2024 تختلف كثيرا عما كانت عليه خلال هذه السنوات العشر الأولى». وذكر أسماء العديد من الكتاب الذين «اختفوا» (على حد قوله) من صفحاتها، ورؤساء التحرير الذين تركوا مناصبهم، وبعض مؤسسيها الذين تعرضوا لحملات معادية. واختتم بتحية المؤسسين قائلا: «لا شك لدى فى أنهم كانوا يريدون صحيفة مستقلة، لكن كما يقال تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن».
■ ■ ■
شخصيا لا أختلف كثيرا مع ما ورد فى تلك التعليقات بشأن تراجع مساحة حرية التعبير، وأشكرهم على مساهماتهم.
ولكن أحب التوقف عند فكرة الإعلام المستقل. فهل المقصود بها أن تكون الجريدة حرة فيما تنشره دون تدخل من الدولة ودون الخضوع لرقابة من أى نوع؟
الحقيقة أن هذا ليس ما قصدته بالاستقلال، بل أرى تداخلا بين موضوعين مرتبطين، لكنهما ليسا متطابقين: حرية التعبير واستقلال الإعلام.
■ ■ ■
أن تنشر الجريدة ما يحلو لها من آراء كتابها ومحرريها فهذا يعبر عن مناخ تسوده حرية الرأى والتعبير والنشر. وهذه قيم إيجابية فى كل الأحوال، ونقيضها هو الرقابة والتضييق.
ولكن قد يكون المناخ حرًا دون أن تكون الجريدة مستقلة متى كانت واقعة تحت السيطرة أو التحكم من أى طرف، سواء دولة أم فئة معينة أم مجموعة مصالح على نحو ما هو معروف فى العالم. وعلى النقيض فقد يكون المناخ العام مقيدا لحرية التعبير، لكن تظل هناك وسائل إعلام مستقلة لأنها غير واقعة تحت سيطرة الدولة ولا جهات أخرى، ولأنها تسعى للحفاظ على مساحة من الحرية لكتابها ومحرريها، سواء نجحت فى ذلك أم لم تنجح.
وإذا كانت الجريدة - أى جريدة - تتعرض لضغوط وتدخلات، ويتفاوض رئيس تحريرها فى كل عدد على عنوان لمقال أو جملة أو على تحقيق صحفى أو خبر، وإذا كانت النتيجة حذف ما يُحذف ومنع ما يُمنع، فإن هذه - فى المفهوم الذى أقصده - علامات مقاومة واستقلال وليست مظاهر رضوخ واستسلام. بل لا أتصور أن تكون هناك حاجة للتدخلات والضغوط إلا مع جريدة وكتاب ورؤساء تحرير يحاولون تجاوز القيود المفروضة عليهم، بالتفاوض أحيانا، وبالمناورة والعبارات المبهمة فى أحيانٍ أخرى، وبالرضوخ فى بعض الحالات حرصا على بقاء الجريدة واستمرارها. وهذا كله لا يفقدها استقلالها، بل يؤكده، وإن كان يعبر عن وقوعها مثل غيرها تحت وطأة الرقابة والتدخل.
وللتوضيح، فإن حديثى لا يتعلق بجريدة بعينها، ولا بالصحف وحدها، بل بكل وسيلة إعلام تسعى للحفاظ على بعض الاستقلال والحرية سواء جريدة أم برنامج تليفزيونى أم منصة إعلامية. كذلك فإننى لا أتحدث إلا عما يصدر وينشر داخل مصر وليس من ملاذات آمنة فى الخارج، حيث لا قيود ولا مخاطرة ولا ثمن يُدفع.
■ ■ ■
قضية استقلال الإعلام ليست بسيطة. بل فيها مراوحة مستمرة، و«كر وفر»، وفترات تقدم نسبى وفترات تراجع وانحسار، وفى الغالب جهات رقابية قابلة لبعض الحركة، وأخرى رافضة لكل خروج عن النص. وهذا ما يجعلها قضية جديرة بأن تخاض، لا أن نفقد الأمل ونصل فيها لنتيجة سريعة بأن الجريدة فقدت أهميتها ومصداقيتها أو أننا بلغنا طريقا مسدودا لأن مقالا قد مُنع أو كاتبا لم يعد محل ترحيب.
فتحيةً للإعلاميين الذين يحاولون الحفاظ على استقلالهم واستقلال كتابهم. وأدعوكم لمساندتهم والتضامن معهم فى محاولاتهم - الناجحة أحيانا والفاشلة فى أحيانٍ أخرى - للحفاظ على مساحات غالية من حرية التعبير. وإذا أتت الرياح بما لا تشتهيه السفن، فعلينا الوقوف بجانبها فى مقاومة الرياح والتعامل معها بصبر ودأب، بدلا من الالتفات عنها وتركها لمصيرها لأنها عندئذ ستجنح بالتأكيد.
التعليقات