لطالما طبّل بعض الإعلام العربي وزمّر للمظاهرات الشعبية والجامعية التي خرجت في شوارع أمريكا وأوروبا تنديداً بالحرب على غزة وضرورة وقف الحرب. ولأننا نجهل طبيعة المجتمعات الغربية، فقد ظننا أن الشارع الغربي انقلب على إسرائيل وصار قلباً وقالباً مع القضية الفلسطينية، وأن ذلك سيؤثر لاحقاً في السياسات الغربية من خلال الضغط الشعبي عبر صناديق الاقتراع. وقد ظن البعض أن انتصار السياسي البريطاني جورج غالاوي المؤيد للقضية الفلسطينية على خصمه التابع لحزب المحافظين في إحدى الدوائر الانتخابية مؤخراً مؤشر على أن الشارع البريطاني ضاق ذرعاً بموقف الحكومة البريطانية المؤيد للحرب الإسرائيلية على غزة، وهو قد انتقم من الحكومة بالتصويت لعضو مؤيد للقضية الفلسطينية. لا أدري لماذا غاب عن ذهن الذين طبلوا وزمروا لفوز غالاوي أن المقعد البرلماني الذي فاز به لا يعبر عن المزاج الشعبي العام، بل يخص دائرة انتخابية تسكنها أغلبية إسلامية، وبالتالي فإن نتائج الانتخابات لم تكن معبراً عن توجه عام، بل مجرد موقف اتخذته الجالية العربية والإسلامية في تلك المنطقة ضد الحكومة وتأييداً لصوت معروف بدفاعه عن القضايا العربية والإسلامية. وقد جاءت نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية في عموم أوروبا لتؤكد أن ما حصل في بريطانيا كان مجرد استثناء فعلاً، وأن الشارع الغربي لم يتغير أبداً في موقفه من القضايا العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، بل ربما ازداد تصلباً، هذا إذا كانت تهمه القضية أصلاً عندما يذهب إلى صناديق الاقتراع.

لقد ظن كثيرون أن المظاهرات العارمة التي خرجت في الجامعات الغربية ضد الحرب ستشكل لاحقاً ضغطاً كبيراً على صانعي السياسة الغربية، وستفرض عليهم أن يغيروا من موقفهم الداعم لإسرائيل لصالح القضية الفلسطينية، لكن المفاجأة كانت صاعقة عندما بدأت تظهر نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية، فقد شهدت الانتخابات الأخيرة للاتحاد الأوروبي، التي يشارك فيها مئات الملايين من سكان البلدان الأعضاء الـ27، صعوداً لافتاً لأحزاب اليمين المتطرّف، وهو ما سيترك تداعياته على ظاهرة أوروبية خطيرة وهي ظاهرة تنامي العنصرية وفي صلبها كراهية الأجانب (والمسلمين على وجه الخصوص). لقد ظننا أن الشارع الأوروبي صار متعاطفاً معنا ومع قضايانا بناء على مظاهرات الجامعات الأوروبية، فإذ به يزداد تطرفاً ضدنا، فهو أكثر تشدداً مع العرب والمسلمين من الحكومات الأوروبية التي تؤيد الحرب الإسرائيلية على غزة، وقد لاحظنا أثناء التظاهرات المؤيدة التي خرجت في شوارع وجامعات أوروبا تأييداً للقضية الفلسطينية أن أكثر من وقف ضدها وحاول التشويش عليها ومناهضتها كانت الأحزاب اليمينية الأوروبية الفائزة في انتخابات اليوم. وفي كل مرة كانت تخرج مظاهرة عارمة في بلد أوروبي ضد الحرب على غزة كنا نشاهد فوراً خروج مظاهرات معارضة لها من قبل الأحزاب اليمينية المتطرفة.

وهذا يعني على ضوء نتائج الانتخابات البرلمانية الأوربية أن الشارع الأوروبي لم يتحول في اتجاه الاعتدال معنا ومع قضايانا، بل ازداد تصلباً وتطرفاً وعنصرية، وأن المظاهرات التي كانت تنظمها الأحزاب اليمينية ضد المؤيدين لوقف الحرب على غزة كانت أكثر تعبيراً عن الشارع الأوروبي من المظاهرات المؤيدة لغزة والمناهضة لإسرائيل. البعض قد يقول إن بعض الأحزاب اليمينية الأوروبية معادية للسامية، وهذا قد يكون صحيحاً، لكنها بالتأكيد أكثر عداء للعرب والمسلمين، وبالتالي فإن الأحلام العربية بأن الشارع الأوروبي قد تغير لصالحنا كانت مجرد أضغاث.

لو كنا أكثر نباهة لألقينا الضوء على الجهات التي دعمت المظاهرات الغربية المعارضة لإسرائيل في الجامعات والشوارع الأمريكية والأوروبية، فهي لم تكن شعبية بالمعنى الدقيق للكلمة، بل كان معظمها ممولاً من جهات أمريكية، وحتى يهودية لأهداف داخلية وسياسية بالدرجة الأولى. وحسب معلومات صحيفة (بوليتكو) الأمريكية الشهيرة، فإن من بين هؤلاء الرعاة للاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين، كانت هناك عائلات ذات نفوذ قوي جداً في أوساط الحزب الديمقراطي الأمريكي، ولا سيما عائلة سوروس، وروكفلر، وبريتزكر، وهي عائلات يهودية أصلاً. وبالتالي قبل أن تصفق لتلك المظاهرات والجامعات الأمريكية، كان عليك أن تعرف من يمولها ويقودها وينظمها ويوجهها، فليس هناك عفوية وعواطف في السياسة، بل إن كل شيء محسوب ومدروس بدقة لأهداف معينة. وحتى لو كان هناك مواقف شعبية حقيقية وصادقة في الشارعين الأوروبي والأمريكي لصالح غزة أو غيرها، فهذا لا يعني أن الشارع تغير، فالقضايا العربية في الانتخابات الاوروبية ليست أولوية أصلاً ولا تلعب دوراً في الاقتراع لديهم. الأوروبي قد يتضامن معك بكل قضاياك وحقوقك العادلة،

وعند الانتخابات يتضامن مع مصالحه وقضاياه الخاصة التي تتعلق بواقعه. أما قضاياك فهي مجرد حرية رأي. ويقول الدكتور غسان سلامة: «علينا أن نميّز ثلاثة أنواع من الأشخاص في الغرب ليسوا أنفسهم: المتظاهرون ورواد مواقع التواصل الاجتماعي والناخبون». بعبارة أخرى، فإن الذين طبلوا وزمروا للمظاهرات الغربية خلطوا زيد بعبيد، فالمظاهرات رأي عام متأثر بظرف ما، أما الانتخابات فهي قرار وتعبير عن موقف، وهذا ما لم يفهمه الذين خدعوا الشارع العربي بتصوير المظاهرات الغربية على أنه انقلاب للشارع الغربي ضد إسرائيل لصالح العرب والمسلمين. ولا ننسى أن الشارع الغربي أصلاً لا تهمه القضايا الخارجية كثيراً مهما كانت خطيرة، ولا تؤثر أبداً في ورقته الانتخابية، فالمواطن الغربي مثلاً يهمه تخفيض أسعار المشروبات الكحولية أكثر ألف مرة من أي قضية خارجية. بعبارة أخرى، فإن الانتخابات الأوروبية لا علاقة لها بالسياسات الخارجية، فمعظم الناخبين صوتوا ضد الأحزاب الحاكمة التي أخفقت في حل مشاكل كثيرة وعلى رأسها الهجرة، ولم يفكروا مطلقاً بمواقف حكوماتهم تجاه تلك القضية الخارجية أو تلك. ومن سوء حظنا أن الأحزاب المتطرفة الفائزة بالانتخابات أشد علينا وعلى قضايانا من الحكومات نفسها. صدق من قال: يقرأ الجاهل الخبر وفق ما يحب أن يسمع، ويقرأ العاقل ما يحب وما لا يحب أن يسمع.