يتطلب مفهوم الذات وجود الآخر، بوصفه كينونة مضادة مطلوبة لتحديد الذات. أنت والآخر تكمنان في حالة مغايَرة تمر عبر خصائص من؟ وماذا؟ الخاصة بك وبالآخر. حالة مغايِرة منفصلة عن التوقع الرمزي لبعضنا وما يمكن أن نكون عليه، وعن الحقيقي، وعن الجماليات، وعن القناعات الخاصة، وعن سمات الذات. من ثَم فإن حالة الشخص الآخرية هي مستقلة لا يمكن أن يكون عليها فرْض يقصي الشخص الموصوف بأنه «الآخر» من قلب المجتمع ويهمشه لمجرد كونه الآخر دون معيار وميزان للقبول أو الاستبعاد، أو استبعاد مَن لا يسايرنا في قناعاتنا وتصوراتنا واتجاهاتنا الخاصة.

تقفز بعض الأسئلة حين نريد أن نحكم على الآخر من خلال سياق الوعي لدينا اتجاهه خصوصاً حين يكون الظن كامناً بعمق ومسيطراً على دلالة حكمنا على الأمور والأشخاص والأشياء لذلك.. ودوماً هناك حد أدنى لتقبل سلوك، أو فعل، أو مواقف، أو حديث الآخرين يمنحنا التعايش.. الكل يكره الكذب وينبذه كمطلب ديني أولاً ثم كمطلب أخلاقي، وسمة ذوقية ولكن الكل يكذب والكل يكره النقد والانتقاد ولكن الكل ينقد وينتقد.

وهناك صفات غير مقبولة من الآخرين تجاهنا ولكننا نفعلها تجاه الآخر.. هكذا هي العلاقة الاجتماعية المبنية على فلسفة حب الذات قبل الاتصال بالآخر.. الموضوعية والحيادية نسبية جداً فإن اختلف الأشخاص أو الموضوعات، أو المواقف، أو الاتجاهات فالنتائج السلبية متكررة وواقعة.

الموضوع الحقيقي هو قبول الآخر بالتجربة وليس بالظن والتخيل، أو استخدام التفسير الظاهري، أو بأخذ الانطباع الأولي.. الموضوع ليس نسف الإيجابيات مقابل سلبية واحدة أو اثنتين..

ليس من العدل قول: أنا لا أهضم هذا أو أرغب في ذاك من الناس بناء على شكل، أو مظهر، أو حركة بدون عشرة، أو تجربة، أو معاملة.. وليس من العدل أن نتجاهل المحاسن مقابل سوء واحد، أو نتناسى الإيجابية مقابل سلبية، أو حالة مستثناة.. هذه الحقائق التي ينبغي علينا معرفتها وتعلمها فلابد أن تكون قاعدة الحد الأدنى مفعّلة ونشطة في قلوبنا وعقولنا.

الحد الأدنى للرشد يؤدي إلى قبول الآخر بسهولة دون تعقيد ويبدأ من قناعة ألا أحد كامل ولا تام.. وفلسفة القبول من عدمه تبنى على الارتياح والألفة قبل كل شيء وذلك متعلق بالعاطفة والروح والمشاعر أما التقييم والنقد والمراقبة فتبنى على فلسفة الفكر والأنا.. المشكلة تقبع خلف التصورات النمطية، ووراء الصور الذهنية التقليدية التي تجعلنا نقدم ما يسن على ما يجب، ونأخذ بالانطباع قبل الحكم.

كم هو مرهق هذا القبول وعدمه، وكم هو متعب هذا التقبل من غيره فحكمنا على الآخرين يزعجنا لأننا لا نعرف كيف نحاكمهم إلا من خلال رؤيتنا الضيقة ولا نعرف كيف نقبلهم إلا عبر عاطفتنا المتحركة بالأهواء والرغبات، والغريب نظلم الآخر أحياناً ولا نقبل أن يظلمنا أو يحكم علينا جوراً. لعلنا مع خطأ الآخر المقرب نغفر في برهة حلم، ونقبل عذره في لحظة إحساس..

ويبقى القول: الآخر في حياتنا هو ما يمنحنا حقيقة التفاعل في معيشتنا.. الآخر هو كل قريب وبعيد ونحن نصنّفه بطريقتنا، ومشاعرنا، ورغباتنا، وأفكارنا.. الحد الأدنى درجة ثبات لأي علاقة مبنية على الخير وليس المصلحة.. الحد الأدنى هو ما نضعه معياراً حقيقياً لقبول الآخر فلا أحد كامل وكل ابن آدم خطاء.. فلو سقطت العلاقات من خطأ أو تقصير لما بنيت علاقات جديدة، ولما استمرت علاقات طيبة ولهدمت المجتمعات.. الحد الأدنى هو ما يجعلنا نتنفس بالحياة والراحة فليكن لكل منا حد أدنى لنفهم ونستوعب الآخر فتنجح علاقاتنا.